منذ بدء
مسيرة العودة قبل خمس جُمَعٍ، لم يكن المشهد الأكثر جاذبيةً مشهد الفعاليات الرسمية والخطابات السياسية، بل مشهد العائلات البسيطة التي تصل إلى الميادين في ما تعتبره رحلة تنزه، فتتناول طعام غدائها، وتجلس على الأعشاب على بعد عشرات الأمتار من أراضينا المحتلة عام 48، وتشير لأطفالها إلى
ما بعد السياج العازل أن تلكم هي ديارنا التي هجرنا منها قبل سبعين عاماً وسنعود إليها مهما طال الزمان.
كان من المشاهد المؤثرة ذلك الرجل السبعيني الذي التقيته في السيارة، وهو يحمل كيساً فيه رغيف خبز وزجاجة ماء، حدثني أنه والد شهيدين، وأنه عزم أمره منذ أن بدأت مسيرة العودة ألا يفوته يوم دون الرباط في مخيم العودة، كذلك مشهد أم وسام، المرأة الستينية التي لا يفوتها يوم منذ أكثر من شهر دون أن ترابط في مخيم العودة منذ الصباح حتى ساعات متأخرة من اليوم، تتجول بين الشباب والنساء، تستثير فيهم الهمة، وتفضي لهم بأشواقها في العودة، أو مشهد المبادرات الشبابية المتجلية في عشرات الأنشطة الفنية والثقافية والرياضية التي عبرت عن مكنون من الإبداع والعنفوان.
كانت الرسالة الأهم التي تحملها زيارات العائلات ورحلات الأصدقاء إلى مخيمات العودة؛ هي أن مسيرة العودة ليست فعلاً نخبوياً أو نشاطاً فصائلياً، بل إنها تحولت إلى ثقافة مشاعة بين الناس يبادرون إلى ممارستها بدافع تلقائي دون تكلفة كبيرة، ودون انتظار تعليمات رسمية بالتحرك.
لعل من أهم ما يميز المقاومة الشعبية أنها تخلق دافعاً ذاتياً في نفوس الناس للمشاركة، فيشعر الشاب والرجل والمرأة والشيخ والعجوز أن لهم دوراً إيجابياً في العمل الوطني،
فالجمهور في حالة المقاومة الشعبية لا يكتفي بالمراقبة أو التشجيع مثلما يفعل في المقاومة العسكرية، بل يبادر إلى البحث عن موقع للفعل والتأثير، فتتحول المقاومة إلى حالة شعبية عامة.
إشراك الناس في الجهد الوطني أمر لا ينطوي على فائدة ثانوية، بل هو غاية مقصودة، ذلك أن تعزيز الإيجابية في نفوس الجماهير ورفع شعورهم بالمسؤولية الوطنية وإشراكهم في الفعل والقرار يدفع باتجاه تحرير الإنسان، وهو هدف لا يقل مركزيةً عن تحرير الأوطان، إذ ليس من الغنيمة أن يحرر الوطن وأهله كسالى متثاقلون، ثم يهدى إليهم وهم قاعدون، فالشعوب لا تدرك قيمة الحرية والكرامة إلا حين تناضل في سبيل انتزاعها وتشعر بمرارة فقدانها، والفعل الوطني يربي في النفوس القيم الإيجابية، مثل الشعور بالمسؤولية العامة ومراقبة أداء الحاكم والمشاركة في صناعة القرار، وبذلك فإن تقوية دور الجماهير يمثل رافعةً وطنيةً وتأسيساً لحكم رشيد.
إن الفعل الشعبي المباشر يتضمن من العفوية والحرارة مقداراً أكبر مما يتضمنه الفعل المنظم الذي يخضع للحسابات السياسية، لذلك فإن تقوية الحضور الشعبي يدفع بالحراك إلى أن يكون أكثر اتساقاً مع الأهداف الوطنية، وأشد استعصاءً أمام محاولات الاختطاف. ولو درسنا تاريخ الثورات والانتفاضات، لرأينا أنه يسهل إجهاضها حين يتركز القرار في أيدي فئة قليلة وتضعف المبادرة الشعبية، فتساوم هذه الفئة القليلة بمصالح خاصة مقابل إجهاض الحراك، فإذا اتسع التيار الشعبي المبادر إلى صناعة الحراك، حرمت الأطراف الخارجية من فرصة الاستفراد والالتفاف على حقوق الجماهير.
ثمة اعتبارات لا بد من مراعاتها لإنجاح تجربة مسيرة العودة واستوائها على سوقها، من أهم هذه الاعتبارات أن يتراجع الظهور الفصائلي ويفسح القادة الرسميون الطريق لقيادات شعبية غير فصائلية أن تعبر عن نفسها وأن تتعزز المبادرات المجتمعية؛ لا نقول ذلك إنكاراً لجهود الفصائل ودورها في إنجاح التجربة، بل لأن تعزيز الطابع الشعبي للحراك سيحرم دولة الاحتلال من دعاية تمثل ركيزةً أساسيةً من ركائز
خطابها الإعلامي ضد مسيرة العودة، وهي نسبة هذا النشاط إلى عناوين محددة يصنفها الاحتلال بأنها إرهابية، ويستدعي ذكرها دلالات سلبيةً في المجتمع الدولي. والاحتلال لا يطيق تكلفة مواجهة الشعب مباشرةً، لذلك فإنه يمارس التدليس عبر ادعاء أن هذه المسيرات منظمة من قبل حركة حماس، وهو ما يقتضي منا في المقابل أن نعاكس دعاية الاحتلال، وألا نظهر الحراك بالصورة التي تساعده في تسويق روايته.
ظهور تيار شعبي متجاوز للفصائلية في مسيرة العودة سيقوي هذا الحراك داخلياً وخارجياً، وسيحصنه من الضغوط السياسية؛ لأن تنظيمات مثل حركة حماس ترتبط بعلاقات معقدة مع الأطراف الإقليمية، وهو ما سيدفع تلك الأطراف إلى ابتزاز حركة حماس لإيقاف هذه المسيرة. لكن إثبات الطابع الشعبي للحراك وتجاوزه القرار الفصائلي؛ سيساعد هذه الفصائل ذاتها في مواجهة الضغوط الخارجية، وسيجبر الأطراف الخارجية على الاستماع إلى صوت الشعب مباشرةً.
يضاف إلى هذا السبب السياسي سبب مبدئي رئيس، وهو حق الشعب في أن يعبر عن نفسه من تلقاء نفسه دون أن يكون لأي قوة سياسية، مهما بلغ وزنها، الحق في مصادرة أصوات الجماهير أو احتكار تمثيلها.