دخلت القوى العظمى في حرب طاحنة عام 1939، وانتهت تلك الحرب بعد ست سنوات بخوار قوى أغلب الدول الكبرى، وتغيّر شكل النظام الدولي، وتحوّل من نظام متعدد الأقطاب إلى نظام ثنائي القطبية، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي طرفيْ النسق الدولي الجديد، ودخلت الدولتان في صراع نفوذ سياسي وأيديولوجي، فوجدنا حلف الناتو يقابله حلف وارسو، ووجدنا الرأسمالية تتمدد لتحجيم النفوذ الشيوعي، ومؤخرا عرفنا أن الوهّابية كانت إحدى أدوات محاربة الشيوعية، واستمرت تلك المعركة حى سقوط جدار برلين أواخر الثمانينيات، وتأكدت هزيمة الاتحاد السوفييتي بتفككه في كانون الأول/ ديسمبر 1991، لنبدأ عصر أحادية القطبية الذي تحكّمت فيه أمريكا في مسار العلاقات الدولية بشكل كبير.
الملاحظة الهامة أن الولايات المتحدة الأمريكية الآن تفوق في قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية دولة روسيا الاتحادية، لكنها لا تقدر على الدخول في مواجهة عسكرية معها رغم بقاء العداء الشديد بينهما، وتملك كل من الدولتين ترسانة نووية تُقدّر بأنها تمكِّنهما من تدمير العالم 400 مرة، لكن لا تقدر أي منهما على مهاجمة الأخرى بالسلاح النووي حتى مع تقدم أمريكا الملحوظ في هذا الجانب، إذ لدى كل منهما القدرة على التدمير "بالضربة الثانية"، أي إذا هاجمت إحدى الدولتين الأخرى بالضربة النووية الأولى ودمّرتها، فبإمكان الدولة التي هوجمت أن تدمر الأخرى بالضربة الثانية، حتى وهي تحتضر ومُدمَّرة. وتوازن الرعب النووي ذلك أدى لما يُسمّى "بالإثْناء الذاتي"، أي أن كل دولة منهما لديها قناعة تُثْنيها عن مهاجمة خَصْمها والدخول معها في حرب مباشرة.
هذا المثال متعلق بالنظر للحالة الدولية، لكن هل يمكن سحبه على الحالة المحلية، خاصة
المصرية؟
الجواب متعلق بالنظر إلى الأساس الذي يمكن به فهم العلاقات الدولية والتفاعلات الداخلية في المجتمعات، ولا يبدو أن هناك خلافا كبيرا حول أن الأساس الذي تُفهم به العلاقات الدولية والتفاعلات الاجتماعية هو (القوة أو السلطة). إذ إن المطروح دائما: كيف تُوقِف القوةُ القوةَ؟ ولا يتحقق التوازن بين المكونات المختلفة إلا بوجود قوة تمنع غيرها من الشطط أو الاستئثار بالقرار دون الباقين، وهو ما يتحقق في الحالة الدولية التي تُدار بمدى قوة الدولة (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا)، ويتحقق كذلك في الحالة المحلية التي تُدار وفقا لتوازنات القوى بين الجهات الرسمية، وبعضها (التشريع والتنفيذ والقضاء والقوات المسلحة)، أيضا الجهات السياسية غير الرسمية (الأحزاب والنقابات وجماعات الضغط بمختلف أشكالها). فإذا كان هناك توازن امتنع طغيان طرف على آخر، وإذا غاب التوازن استأْثَرَ الطرف الأقوى بالقرار، ومن هنا جازت المقارنة بين الواقعيْن: الدولي والمحلي.
فهمَت السلطة المصرية أثناء حكم مبارك هذا التوازن الداخلي، فحافظت بقدرٍ ما على علاقتها مع المعارضة، فكانت تتواصل مع كل الأطراف السياسية بصورة غير معلنة غالبا، لكنها حافظت على هذا الاتصال، وعندما قدِم جمال مبارك وجماعته وسيطروا على القرار، بدا أنهم مراهقون سياسيا فحطّموا العديد من ثوابت العلاقات، وتأثر مبارك بذلك التوجّه الجديد، وليس غريبا أن يغريَه ذلك، فقد كان الشارع هادئا ولا يتظاهر ضده بشكل واسع، بل كانت التظاهرات نخبوية فقط، إلى أن وصل أخيرا لقوله: "خليهم يتسلوا"، فقامت
الثورة وأطاحت به.
عقب التغيّر العنيف في 2013، بدا أن السلطة تجاهلت "الإثناء الذاتي"، فقررت أن توجّه ضربتها القاسية لأقوى التجمعات الشعبية، فتوجهت بكل قوتها وبوحشية ضد الحركات السياسية الإسلامية أولا، وبعد ذلك أكملت سعيها لتأميم الحياة السياسية باستهداف أي صوت معارض، سواء كان إسلاميا أو معاديا للإسلاميين، بل حتى لو كان عسكريا، فاعتقلت العديد من الضباط الحاليين والسابقين، وبلغت أقصى مدى باعتقال رئيس أركان أسبق، كان رئيسا في العمل لرئيس الجمهورية الحالي.. وكل هذه دلائل لظنِّ السلطة "الجديدة" أنها لم تعد بحاجة لما يثنيها عن اتخاذ أي قرار تراه، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، ودعَمَ وجهةَ نظرها قدرتُها على كبت أي حراك سياسي يعاديها، وهي حالة تشبه حالة مبارك قبيل الثورة.
ثُم هناك وجهَ تشابهٍ آخر، وهو أن الداخلين على السياسة عقب 2013 أناسٌ جدد كجماعة جمال مبارك، إلا إنهم هذه المرة عسكريون، وخبرتهم لا تتجاوز الأمر والنهي والتنفيذ، فارتبك أداء الدولة المصرية، والإشارات من الأجهزة التي تعاملت مع السياسة طوال فترة مبارك (الأمن الوطني والمخابرات العامة) تشير إلى التململ من طريقة الإدارة، حتى لو اتفقوا على الهدف النهائي الذي يُقصي تأثير التيارات الشعبية خاصة الإسلامية، حتى نقل أحد المفرج عنهم عن ضابط كان يُحقق معه قوله: أعلم أن هذا الوضع لن يستمر، لكننا سنجتهد ألا يكون هذا التغيّر ونحن أحياء.
إذا غاب الإثناء الذاتي لدى السلطة، وتم توجيه الضربة الأولى للتيارات الأهلية والشعبية، فهل تقدر القوى الشعبية على توجيه الضربة الثانية، رغم حالة "الموت السريري" التي أصابتها؟
ما لا يمكن التكهُّن به؛ توقيت الحركة المقابلة لإضعاف أو إنهاء بطش السلطة، لكن ما يمكن التيقّن بحدوثه أن تزايد معدلات البطش تتزايد معه إمكانية التحرك ضده، وأن ارتفاع نسب التأييد المعلنة في الانتخابات بصور غير معقولة، يشير إلى انخفاض الشعبية بصورة كبيرة جدا، وهو ما يجري الآن، لكن الإشكال في أن حركة القوى المعارضة غير منسجمة وغير واضحة الهوية، والهوية الغائبة هي الديمقراطية، لكنها لم تتبلور في وجدانهم، وبفقدان الهوية فُقد الانسجام، والمطلوب من التيارات الراغبة في تحسين المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أن تبني رؤيتها على قبول الاختيار الشعبي الحر وضمان نزاهته واستمرارية هذه النزاهة، ومن ثَمّ يمكنهم التحرك بانسجام، وطرح ورقة حلول لأزمات البلد مقابلة لممارسات النظام.
ينبغي أن تكون هذه الورقة ميثاق المستقبل من جهة وضع الحريات في الدولة، وكيفية توزيع الثروات والموارد بصورة عادلة، وطريقة حل الخلاف السياسي، وكيفية صياغة التشريعات، وضبط العمليات الانتخابية، بدءا من الاتحادات الطلابية انتهاء برئاسة الدولة، وعدم تجاوز موازين القوة في البلد، مع ترجيح ثقل المجتمع إزاء أي قوة أخرى، وغير ذلك مما يمكن الالتفاف حوله من المطالب، كما ينبغي التحرك على أساس أن التنازل عن الحدود القصوى من مطالب كل طرف واجب، مقابل الرضى بالحدود الأساسية التي تضمن وجود احتكام شعبي دائم لحسم الاختلاف، وترجيح إحدى الأيديولوجيات على غيرها عند التعارض، فإذا استقرت تلك الأمور في الوجدان، سهلت صياغتها في النصوص، وحينها ربما تسارعت وتيرة عودة التوازن المفقود في هذا البلد، وسيرتدع أي أخرق يظن أنه يمكنه تجاوز سنن المجتمعات والتاريخ.