بدأت بالأمس ما تُسمى بالانتخابات الرئاسية في
مصر، لتكون إيذانا بتجدد ولاية الرئيس الحالي، بعملية لا يمكن وصفها بالاستفتاء ولا بغيره مما يليق بالعمليات الانتخابية. إذ تم إقصاء الجميع بالقوة الغاشمة، ولم يبق على الساحة سوى مرشح أوحد، اصطحب معه من يمثل دورا في تلك المهزلة. ومن عجلتهم لم ينتبهوا لفقدانه أحد شروط الترشح الخاصة بالمؤهل العلمي، فاضطروا لمعادلة شهادته الصادرة منذ ربع قرن تقريبا، لتضاف هذه المشاهد الهزلية لجملة الحالة السياسية المصرية التي تردّت بشدة عقب تموز / يوليو 2013.
ستمر الأيام الثلاثة المقررة لتلك العملية، وسيترتب عليها إعلان ولاية ثانية لحاكم مستبد، لم تجرّ أيامه على الدولة سوى الفقر والقمع، ولم تجرّ على مؤسساتها النظامية سوى الانفصال عن الشارع وتفكك العلاقات بين جهات الحكم والجهات الأهلية والشعبية.. ستأتي ولاية رجل تسلّم البلد وهي مدينة للخارج بـ46.1 مليار دولار وكان حينها يساوي 7 جنيهات تقريبا، وأوصل الدين لـ 80.8 مليار دولار وهو يساوي الآن 17.6 جنيها تقريبا، ستأتي ولايته بعدما رفع الدين المحلي من 1816.6 مليار جنيه إلى 3160.9 مليار جنيه، بما يوازي إجمالي الموازنة العامة تقريبا. وستأتي ولايته بعدما ارتفع معدل التضخم أثناء ولايته من 10.3 في المئة إلى 30.7 في المئة تقريبا (ومعدل التضخم هو معدل زيادة الأسعار، كما يعتبر مقياسا لانخفاض قيمة العملة)، ورغم هذا يقول دائما إن ما تم إنجازه في أشهر قليلة معه، لم يتم إنجازه على مدار عشرات السنين.
ستأتي الولاية الجديدة وبذرة الشقاء جاهزة لزيادة أعباء المصريين في أقواتهم وحياتهم؛ لأن أحدا أراد أن يسترضي الغرب فيسارع إلى إجراء ما يتصور فيه الرضا، ثم يحدثنا بوجه جاد ومكفهر عن السيادة والأمن القومي للوطن، ومحاربة الإرهاب الذي رعى نبتته الخبيثة إما بسوء تقدير أو بسوء سريرة. واستكمالا لخضوعه "لشروط" البنك الدولي، سيقوم برفع الدعم تماما، لينسحق المواطنون أكثر تحت ظلمة حكمه، ولم نعد ندري أي قاع سنلامسه بعد ذلك التردي في الوضع المعيشي.
ستأتي الولاية الجديدة مصحوبة بليل حالك من المظالم، فهناك من سيُعدم وهناك من سيُسجن لخمس وعشرين سنة، دون وجود قتيل واحد قتلوه أو عمل واحد يمكن إلصاقه بهم، بل إن مجرد "النيّة" أصبحت كافية لإصدار أقسى الأحكام في القانون الجنائي.. وهناك قتلى تمت تصفيتهم دون محاكمة على خلفية محاولة اغتيال فاشلة لمدير أمن الاسكندرية، وهناك أسرة كاملة تم اختطافها ومعهم طفلة صغيرة لم تتجاوز ربع عامها الثاني، لا يدري أحد كيف حالها وحال أمها وأبيها وخالها، ولا يدري أحد كيف يتعاملون مع بكائها وإلحاحها وهي غير مدركة لأي شيء؛ سوى حاجتها الأساسية من طعام ونظافة، وتخفيف آلام أسنانها التي تشق لثتها العذبة، هذه الطفلة ربما لوثت نفسها فتبكي طلبا لنظافة ربما لا تتوفر لها، وربما جاعت فبكت لإطعامها وأمها غائبة في أحد التحقيقات، وربما ملّت مجلسها فبكت، وربما ضاقت عليها غرفة الاحتجاز فبكت، وربما اشتاقت لوالدها فبكت، وربما أرادت النوم فبكت، وربما وربما.. فهي أحوال كثيرة يبكي لها الطفل بحرقة ومرارة، ويبكي لها الرجال عجزا عن تخفيف الحال عن طفلة، وينفطر لها قلب الأب والأم، بل ربما أهلكتهم من العجز والقهر.
هذه ملابسات ما قبل التنصيب، فكيف سيكون الحال بعده؟ لقد أصبح حال هذا البلد الكريم الصابر على ظلم حكّامه مدعاة للشفقة، بدءا من سوء الأحوال الاقتصادية وترديها بصورة متسارعة للغاية، وانتهاء بالاختفاء القسري والقتل بكل صوره المتنوعة في البَّر المصري.
لم يعد أمام الأطراف المعارضة لهذا الظلم سوى أن تقف لمرة واحدة على قدر المسؤولية، وتطرح برنامجا تتناقش فيه مع كل الأطراف سواء كانت أهلية أو رسمية، لمحاولة الخروج من هذا المأزق بصورة سِلْمية وبعملية انتقال هادئ، واستبعاد التصورات الشاذة عن الممارسة السياسية المسؤولة، وما ينافي الوجدان المصري العام، حتى تتخفف المظالم الواقعة على أصحاب الدخول المنخفضة أولا، وعلى باقي الكادحين، ولتسترد مصر بعضا من استقلالية قرارها الوطني على المستويين الداخلي والخارجي، وليستعيد المجتمع تماسكه بعدما عمد المستبد إلى زيادة رقعة الانفصام بين أبناء المجتمع ليستأثر بالسلطة دون شريك، ولترميم العلاقة بين الشارع ومؤسساته الوطنية، إذ لا يمكن للشارع أن يتفاعل بشكل طبيعي دون أدوات ضبط النظام، ولا يمكن للمؤسسات أن تضبط الشارع إذا غابت ثقته فيها، وإذا لم يكن هناك من يسعى لضبط الأوضاع بصورة هادئة، فلا يمكن لأحد أن يأمن العواقب خاصة ممن ضاقت بهم السبل.
إن الوضع المصري لم يعد يحتمل تجددا للمظالم أو عدم رفع المظالم الحاصلة، وأولها المظالم الاقتصادية، ولم يعد يحتمل ممارسات بهذه الخفة في التقدير، ومن سيعوّق ضبط الأوضاع سيتجاوزه الزمن والشارع، وتستوي في ذلك الأطراف الرسمية والأهلية.