هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تواجه حركات "الإسلام السياسي" تحديات المحافظة على هويتها، والتشبث بمبادئها وهي تصارع ضغوط الواقع وتكتوي بإكراهاته، إلى درجة التخوف عليها من الذوبان في الواقع أو الانحراف عن أصولها المؤسسية، ما يفقدها مبرر وجودها، ويجردها من صفتها الإسلامية التي عُرفت بها بحسب باحثين.
وتُظهر مقارنة أدبيات تلك الحركات، ومواثيقها التأسيسية بمسيرتها ومواقفها العملية مدى تباين رؤاها ومواقفها في مقاربة جدلية الثبات على المبادئ، وكيفية التعامل مع ضغوط الواقع وإكراهاته المتلاحقة.
ووفقا لرئيس قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة التعليم الإسلامي بنيوجرسي في أمريكا، محمد عبد الكريم الحايك فإن "التعاطي مع هذه الجدلية أصبح أكثر تعقيدا وصعوبة في مرحلة ما بعد الثورات المجهضة، وما بعد تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة، وبعد كل ما خسرته الحركات الإسلامية من سمعتها وصورتها وجاذبيتها لأسباب ذاتية وأخرى خارجة عن إرادتها".
وقال الحايك لـ"عربي21": "يجب على الحركات الإسلامية المحافظة على وضوح خطابها بشأن الهوية والمرجعية والغاية، وتشبثها بتعريف العدو والصديق، مهما كانت إكراهات الواقع التي تواجهها، وإلا فقدت مشروعيتها ومبرر وجودها" على حد قوله.
وأضاف: "إن تمييع الخطاب خطر، وعدم وضوح الرؤية خطر، والتنازلات غير المحسوبة أو المضبوطة بمسطرة دقيقة خطر كذلك"، مشيرا إلى أن الحركات الإسلامية تملك مساحة ممكنة للمناورة في إطار الوسائل والبرامج المرحلية، وترتيب الأولويات بحسب المكان والظروف الخاصة بكل بلد.
واعتبر الداعية الإسلامي في أمريكا "أية مقاربة لهذه الجدلية مرتبطة بمدى قدرة الحركة على معالجة إشكاليات الخلافات الداخلية بين تيارات الحركة المختلفة، خاصة ما يتعلق بإشكالية القيادة وأزمتها الحالية".
ورأى الحايك أنه "لا بد من مراجعة شاملة، ونقد ذاتي عميق أكثر تخصصا تقوم به بشجاعة وأمانة وشفافية ومصارحة مع أبناء الحركة وجماهيرها (..)، حتى تستعيد الحركة تلك الثقة المفقودة، وتقدم نفسها كبديل قادر على القيادة".
ولفت الحايك إلى أن "صيغة الفصل بين الدعوي والسياسي، تحتاج إلى مزيد من البحث والتنظير حتى لا تنتهي بالحركة إلى طريق العلمنة، ما يفقدها ما تبقى لها من رصيد جماهيري ومشروعية إسلامية".
اقرأ أيضا: فصل الدين عن السياسة.. هل بات مقبولا في أوساط إسلامية؟
وأشار الحايك إلى "نموذج العدل والإحسان المغاربي الذي يحظى بمصداقية، والذي ما زال متماسكا بالمقارنة مع تجارب الإخوان المسلمين المتعثرة أو الفاشلة في دول أخرى، وهو يمتلك "حكومة ظل" تتوافر على برامج عملية، وحلول مفصلة للواقع".
وتابع حديثه بقوله: "وسواء أخذنا بهذا النموذج أو تلك الصيغة، فسيظل وضوح الراية والغاية والمرجعية والثبات على المنهج والعمل بالممكن، ولو لم يؤد ذلك إلى نتائج أو نجاحات، بل لو أدى ذلك للتضحية أفضل ألف مرة من الذوبان أو الانحراف اللذين تنزع بسببهما البركة، وينعدم التوفيق الإلهي الذي هو شرط لانتصار الحركة الإسلامية".
ودعا الحايك تلك الحركات إلى "تكوين وإعداد كوادر كافية من العلماء الشرعيين، والمجتهدين المعاصرين، من أجل ترشيد مسيرة الحركة، والمحافظة على حيويتها، وإقامة التوازن الدائم بين ثوابت الحركة وأصولها وبين ضغوط الواقع وإكراهاته".
وبقراءة تستحضر دوافع نشأة الحركات الإسلامية وغاياتها ومقاصدها الكلية، أبدى الباحث السياسي المصري، محمد جلال القصاص تحفظه على ما يقال حول إمكانية وفرص تكيف الإسلاميين مع الواقع، لأننا "أمام صراع لن يستقر إلا بعد هيمنة كاملة لأحد النموذجين على الآخر، فلا الواقع يرضى بالإسلاميين، ولا الإسلاميون - من حيث المبادئ على الأقل – يرضون بالواقع".
وبيّن القصاص أن الحركات الإسلامية نشأت بدافعين، أولهما: نشر وتوطين مجموعة من القيم، تمثل رسالة الله للبشر، أو العمل لاستئناف الحياة على منهج الإسلام، وثانيهما رد فعل على الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، وتفتيته إلى أجزاء (دول قومية)، وانتهاء بصيغ الحكم التي فرضت على المسلمين أنماطا من العيش التي يرفضها الإسلاميون".
وأشار القصاص إلى أن الإسلاميين "نظرا لإيمانهم بكمال الدين وعزته من حيث المبادئ، واستحضارهم الدائم لعصور التمكين الأولى، لا يريدون الأخذ بفقه المراحل، وحين يصطدمون بالواقع لا يحاولون دراسة أسباب الفشل، فيتنازل بعضهم كلية، وينقلب على مبادئه، ويتصلب بعضهم وينعزل، ويقف آخرون حائرين".
وردا على سؤال "عربي21" حول الحلول الممكنة، اقترح القصاص – من حيث الإطار العام للعمل – اعتماد الإسلاميين لفقه الاستضعاف، وفقه المراحل، مع الوعي بأنهم بديل شمولي يزاحم نموذجا شموليا قويا يسيطر على التفاصيل، ولا يرضى بغير إلا تابعا".
أما الحل الثاني فطبقا للباحث السياسي المصري القصاص، فيكمن - من حيث التفاصيل– في إخراج نخبة متخصصة في جميع المجالات لتكوين ظواهر اجتماعية، والنخبة المتخصصة قادرة على تحديد أدواتها ومناطق عملها، وإفساح الطريق لنفسها، خاصة إن كانت على وعي بفقه الاستضعاف والنمو".
من جهته انتقد الناشط الإسلامي الكويتي، عضو حزب التحرير، أسامة الثويني "فئات فكرية وسياسية (لم يسمها) لأنها جعلت الواقع مصدر تفكيرها، وأخذت منه حلول مشاكلها" مرجعا ذلك إلى الجهل من جهة والتأثر بالثقافة الأجنبية من جهة أخرى".
ومثَّل الثويني لذلك بأن "الكافر المستعمر حينما هيمن على بلاد المسلمين، أوجد دولا وطنية، وحدَّ لها حدودا، فصار الواقعيون وطنيين لا ترتفع أبصارهم فوق تراب الوطن، ولا تتجاوز بصائرهم حدوده".
وتابع حديثه لـ"عربي21": "وجد الواقعي ملوكا فصار ينادي بالإصلاح والملكية الدستورية، وجد الواقعي دساتير وبرلمانات وحكومات فصار دستوريا وبرلمانيا وحكوميا"، مبديا تخوفه من "انكماش التطلعات وفق هذا المنهج، حتى تصير نقطة في بحر النظام الدولي، وتصير الأهداف كالريشة في مهب ريح السياسة الأمريكية".
وطبقا للناشط الإسلامي الكويتي فإن "مفتاح حل هذا الانسداد هو قاعدة ذهبية، يُقبض عليها بيد من حديد، ألا وهي: الواقع موضع التفكير وليس مصدره، ومصدر التفكير هو النصوص الشرعية التي أنزلها خالق الواقع والسموات والأرض".
اقرأ أيضا: لماذا تحرض بعض اتجاهات الإسلاميين السلطة على مخالفيهم؟
ورأى الثويني أن "الإسلام اليوم يواجه حملة غربية علمانية شرسة تهدف إلى تحريف الإسلام عقائديا، وليس فقط تغيير أحكامه المتفرعة عن العقيدة، وهي حملة ذات شقين رئيسيين: التضليل الفكري والتضييق المادي".
ووصف الثويني تلك الحملة بأنها "نفس الطريقة التي سار عليها دعاة العلمانية في أوروبا لفصل الدين عن الحياة، فنجحوا في زعزعة المقدس النصراني وتدنيسه، وأجبروا الكنيسة على تغيير الثوابت التي تتعارض مع التصور العلماني" متوقعا فشلها لاصطدامها بدين الإسلام الشمولي.
وجوابا على سؤال: كيف يتشبث الإسلاميون بمبادئهم وأصولهم في مواجهة ضغوط الواقع وإكراهاته؟ قال الثويني: "المرونة ليست مرتبطة بضغط الواقع وإكراهاته ولا حتى إغراءاته، فضغط الواقع يواجه بالصبر، أما المرونة فمرتبطة بقضايا الواقع وأشكاله المتغيرة".
وأوضح الثويني أن "الحزب الإسلامي المبدئي يواجه الاشتراكية - مثلا – بالبيان والنقض حينما تكون الاشتراكية منتشرة في أوساط الأمة، ولكنه لا يستمر على ذلك إن هي "انقرضت"، وحينما تجتاح الأمة القومية يواجهها الحزب المبدئي بذخيرته الشرعية الصلبة، فإن تهاوت ينتقل إلى غيرها ولا يجمد عليها(..)، وهكذا".
وختم عضو حزب التحرير في الكويت، أسامة الثويني حديثه معلقا على دعوة الحركات الإسلامية لمراجعة أصولها المؤسسة، التي عادة ما توصف بالثوابت بقوله: "حينما تكون ثوابت الحركة الإسلامية وتبنياتها الفقهية قائمة على الإسلام، والفهم الدقيق المنضبط بأصول الفقه، فإن المساحات المتاحة لمراجعة ذلك ضيقة جدا"، مضيفا: "إن كان ثمة مراجعات فستكون بالتأكيد من داخل المنظومة نفسها".
تجدر الإشارة إلى أن تباين رؤى الحركات الإسلامية في مقاربة جدلية المحافظة على الثوابت، والتعاطي مع ضغوط الواقع وإكراهاته غالبا ما تفضي إلى غلبة النزعة الاتهامية، بالخروج عن الثوابت، ومفارقة الأصول المؤسسة، والتوجه لعلمنة الدين من داخله، وبأيدي أبنائه "الإسلاميين".