هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تشهد الولايات المتحدة منذ عام 2001 تراجعا مهولا في قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو أمر يحاول كثيرون مقاومته، تارة بالقول إنه تقييم غير دقيق، وطورا من خلال القول بأنه تراجع مؤقّت في مسيرة تصاعدية.
وبغض النظر عن مثل هذا الكلام، هناك مؤشرات لا يمكن للمراقب أن يغفلها أو يتغاضى عنها، وهي تدل على مأزق كبير تعاني منه واشنطن فيما يتعلق بمكانتها ودورها على المستوى الدولي.
أولى هذه المؤشرات تكمن في فقدان القدرة على استثمار القدرات العسكرية الهائلة لاحتواء الصاعدين الجدد.
خلال العقدين الماضيين، آثرت واشنطن التركيز على ما تسميه مكافحة الجماعات الإرهابية معتقدة أنّه الخيار الأسهل، لكنها أغرقت نفسها في مستنقع الحرب على الإرهاب، الأمر الذي سمح للاعبين الآخرين باستكمال صعودهم الدولي مثل الصين على سبيل المثال، والحصول على دور أكبر على حساب الدور الأمريكي كروسيا على سبيل المثال.
الولايات المتحدة أنفقت مئات المليارات من الدولارات على حروب عبثية في بلدان عدة دون أن تنجح في تحقيق أهدافها السياسية فيها، ولعل أفغانستان والعراق خير مثال على ذلك.
أدى فشلها الذريع إلى خلق عقدة لها، فأصبحت القوة العسكرية مقيدة بجدار نفسي، ناهيك عن أن حربها المفتوحة مع الإرهاب، بخلاف الحروب التقليدية مع القوى التقليدية، هي حرب لا تمتلك معيارا محددا لإعلان النصر. لقد أثر هذا الوضع على قدرة الولايات المتحدة كذلك على ردع أو مواجهة قوى إقليمية متواضعة بالنسبة لما تمتلكه هي من قوة، كإيران أو كوريا الشمالية.
هذا الأمر اعترف به وزير الدفاع الأمريكي الحالي جيمس ماتيس، بشكل أو بآخر، خلال تقديمه استراتيجيته للدفاع القومي، وذلك عندما أشار إلى أن الولايات المتحدة تواجه تهديدات متزايدة من قوى رجعية تسعى إلى إقامة عالم يتناسب مع أنظمتها المتسلطة مثل الصين وروسيا، معترفا بأنّ القدرة التنافسية للولايات المتّحدة تتراجع في كل الميادين.
المأزق الأمريكي لا يمكن اختزاله فقط بالعنصر العسكري. صحيح أن واشنطن تبقى القوة الأكبر والأقوى على الصعيد العالمي حتى هذه اللحظة، لكن ذلك لا معنى له ما لم يساعد على تحقيق الأهداف التي تطمح الولايات المتّحدة إلى تحقيقها.
أضف إلى ذلك أن تفوقها العسكري، لا يمكن ضمانه مستقبلا مع التراجع الاقتصادي، فبعد الأزمة المالية العالمية التي تحولت إلى أزمة اقتصادية دولية قبل حوالي عقد من الزمان، بلغ التراجع الاقتصادي الأمريكي مداه في مقابل التقدّم السريع والمتسارع للصين.
معظم التقارير الاقتصادية تشير إلى أن الصين ستتجاوز الولايات المتحدة خلال عقد من الزمن بعد أن كانت تتوقع أن يكون ذلك في عام 2050 على الأقل.
في حقيقة الأمر، هناك من يعتقد بأن الاقتصاد الصيني تجاوز بالفعل نظيره الأمريكي (إذا ما تم قياسه بالقوة الشرائية) وبات يحتل المرتبة الأولى عالميا منذ عامين على الأقل.
ويزداد المأزق الأمريكي عمقا عندما تفرز الديمقراطية الأمريكية رجلا من مستوى ترمب ليكون رئيسا للبلاد، في ظل استقطاب داخلي متزايد، وبموازاة صعود التيار العنصري والشعبوي، ناهيك عن الحالة التي وصلت إليها المؤسسات الرسمية السيادية للبلاد لاسيما الخارجية والدفاع، علما بأن الأداء السياسي الدولي لواشنطن آخذ في التراجع نتيجة السياسات المتناقضة للإدارات الأمريكية المتعاقبة.
كل هذه المعطيات تقول إن القوة العظمى تعاني من مأزق حقيقي، وأن مسار التراجع مستمر، وأن التهرب من مواجهة التحديات الحقيقية والقوى الكبرى من خلال التركيز على ما يعتقد أنه أسهل أو أقل كلفة هي حسابات خاطئة ستسرع من مسار التراجع على المستوى الدولي.