أثار إعلان أنقرة عن إنجاز صفقة منظومة صواريخ "أس 400" مع روسيا بشكل رسمي، وتعليق حلف الناتو أن ذلك سيراكم الصعوبات أمام دمج تركيا في المنظومة الدفاعية للحلف، السجال مرة أخرى حول حقيقة، وحتى آفاق العلاقة المتأزمة بين الطرفين.
وكانت قد اندلعت منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أزمة شديدة بينهما، إثر استخدام صورة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، واسم الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، كأعداء في مناورة رسمية للحلف بالنرويج؛ كان يشارك فيها أصلاً جنود أتراك.
الأزمة أدت إلى سحب أنقرة لجنودها المشاركين بالمناورة على الفور، وتقديم قيادة الحلف والدولة المضيفة -أي النرويج- اعتذارات رسمية إلى الحكومة التركية. ورغم أنها طويت من حيث الشكل على الأقل، إلا أنها حملت في طيّاتها دلالات عدة تتعلق بحقيقة الطرف أو الأطراف المسؤولة عنها، كما بتداعياتها المحتملة على العلاقة بين الحلف وتركيا في المستقبل، مع تصاعد الدعوات الشعبية والحزبية التركية للانسحاب منه.
عبّرت الأزمة في أحد جوانبها؛ عن تصاعد العداء للإسلام وللمسلمين في أوروبا، مع انتشار وصعود وتصاعد حركات اليمين المتطرف، واعتبار تركيا عنوانا للإسلام في أوروبا
عبّرت الأزمة في أحد جوانبها؛ عن تصاعد العداء للإسلام وللمسلمين في أوروبا، مع انتشار وصعود وتصاعد حركات اليمين المتطرف، واعتبار تركيا عنوانا للإسلام في أوروبا، كما رأينا في ألمانيا وهولندا، ودول أوروبية أخرى. وربما كان المتسببان بالأزمة - أي موظف الناتو والمتعاقد مع الحكومة النرويجية - ينتميان لليمين المتطرف، وأرادا التعبير عن عدائهما لتركيا المسلمة، ليس فقط بقيادتها الحالية، وإنما للجمهورية التركية بشكل عام، حتى مع مؤسسها العلماني مصطفى أتاتورك.
ربما توجد أصابع خفية أخرى سعت للتأثير على العلاقة بين تركيا والحلف. وهنا تمكن الإشارة صراحة، وبدون مواربة، إلى جماعة فتح الله غولن التي تتمتع بوجود كبير ومحمي في أوروبا، حتى أن الأمر بدا وكأنه ترجمة لأساليبها الملتوية والخبيثة المعتادة، وهو ما عبّر عنه صراحة أحد المسؤولين الأتراك (مسؤول الملف الأوروبي الوزير عمر تشيليك). والغرض هنا واضح: زيادة المشاكل والأزمات أمام حكومة الرئيس أردوغان وإحراجها، ومراكمة مزيد من الصعوبات في العلاقة مع حلف الناتو – باعتبارها أحد مصادر قوة تركيا العسكرية والمعنوية - والتي تمر أصلاً بفترة من الشك الريبة وعدم اليقين.
أي كانت الأسباب أو الدوافع لافتعال الأزمة الأخيرة، فهي هدفت إلى التأثير مباشرة على العلاقة بين حلف الناتو وتركيا، وربما حتى دفع هذه الأخيرة إلى الخروج أو تجميد عضويتها بالحلف
عموماً، أي كانت الأسباب أو الدوافع لافتعال الأزمة الأخيرة، فهي هدفت إلى التأثير مباشرة على العلاقة بين حلف الناتو وتركيا، وربما حتى دفع هذه الأخيرة إلى الخروج أو تجميد عضويتها بالحلف، خاصة أنها جاءت في ظل أزمات وتباينات كثيرة بينهما، على خلفية التطورات في الإقليم وأوروبا بشكل عام.
وجاء ملف صفقة الصواريخ الروسية ليؤكد أن ثمة تباعدا كبيرا بين الناتو وتركيا، في انعكاس مباشر للخلافات المستحكمة والتباين الواسع بين أنقرة وواشنطن، باعتبارها القوة الأبرز والمركزية بالحلف، حول ملفات عديدة؛ يمكن اختصارها بملفين أساسيين: سوريا والتطورات والمستجدات فيها، بما في ذلك الحرب ضد داعش، كما العلاقة الثلاثية مع روسيا في ظل البرود بين الناتو وموسكو، والدفء المضطرد بينها وبين أنقرة.
في سوريا، قاتلت الدول الرئيسية في الحلف مع الولايات المتحدة بشكل خاطئ، فهي استعانت بإرهابيين ضد إرهابيين، غضت النظر عن جذر الأزمة والمرض المتمثل بنظام بشار الأسد، وتجاهلت عن عمد الرؤى والمصالح التركية في جوارها الجيوبوليتيكي المؤثر مباشرة على أمنها واستقرارها.
جاء ملف صفقة الصواريخ الروسية ليؤكد أن ثمة تباعدا كبيرا بين الناتو وتركيا، في انعكاس مباشر للخلافات المستحكمة والتباين الواسع بين أنقرة وواشنطن
الحلف لم يكتف بذلك فقط، بل قام بسحب المنظومة الدفاعية المضادة للصواريخ (باترويت) عندما كانت تركيا في أمسّ الحاجة إليها، وبعدما زادت الأخطار الناجمة عن تصاعد وتدويل الصراع في سوريا.
الهوة كانت واسعة كذلك في البعد السوري من العلاقة مع روسيا، فقد تخلى الحزب عن تركيا في ذروة نزاعها مع موسكو، بعد إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ودعاها مباشرة لتسوية نزاعها أو خلافها مع روسيا بعيداً عنه.
من هنا، بدت أنقرة مستغربة من ردود الفعل الناتو إثر لجوئها إلى تحسين العلاقة مع روسيا، وضخ الدفء في شرايينها، وعلى كل المستويات. وعندما بادرت إلى شراء منظومة مضادة للصواريخ "أس 400"، بعدما منعها الحلف عنها، رفض هذا الأخير الخطوة، وهدد بإبعاد تركيا عن منظومته الدفاعية، رغم أن اليونان العضو الآخر في الحلف تملك نفس المنظومة دونما اعتراض أو تحفظ منه.
كانت أنقرة متمهلة بالانخراط في عداء الحلف مع موسكو، ولكن في ما يتعلق بالفضاء الأوروبي فقط، مع غض الطرف أو حتى خضوع الناتو لروسيا في سوريا
أما في السياق الأوسع للعلاقة مع روسيا، فقد كانت أنقرة متمهلة - ولعدة أسباب - بالانخراط في عداء الحلف مع موسكو، ولكن في ما يتعلق بالفضاء الأوروبي فقط، مع غض الطرف أو حتى خضوع الناتو لروسيا في سوريا، حيث الساحة الأهم من وجهة النظر التركية؛ التي رفضت المشاركة في العقوبات أو الخطوات الهجومية والمبادرة ضد موسكو في شقيها العسكري والمدني، واستخدمت عموما نفس اللغة التي خاطبها بها الحلف إثر إسقاط الطائرة الروسية.
مع كل ذلك، وتحديداً بعد أزمة المناورات النرويجية الأخيرة التي كادت أن تكون بمثابة القشة التي تقصم ظهر البعير، جاءت ردود الفعل الرسمية من الطرفين، مثل رئيس الأركان التركي خلوصي أكار، وأمين عام الناتو، وآخرين، لتؤكد أن الطلاق أو الانفصال لا يزال بعيداً، ورغم كل التباينات والخلافات، إلا أن ثمة مصالح وحاجات تفرض نفسها على العلاقة أو الارتباط بينهما.
تركيا الرسمية ترى أنها ما تزال في حاجة للناتو، وأن من المبكر جداً التفكير في الانفصال عنه في ظل الخلافات المتسعة، ومع الافتقاد إلى منظومة دفاعية بديلة، وتزايد الأخطار الأمنية حولها
تركيا الرسمية ترى أنها ما تزال في حاجة للناتو، وأن من المبكر جداً التفكير في الانفصال عنه في ظل الخلافات المتسعة، ومع الافتقاد إلى منظومة دفاعية بديلة (المنظومة الروسية تصل بعد عامين تقريباً)، وتزايد الأخطار الأمنية حولها، وانعدام اليقين في ما يتعلق بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وحتى بآفاق العلاقة المستجدة مع موسكو وطهران، ستعمل أنقرة للبقاء في الحلف، لكن مع الدفاع عن مصالحها، واتباع سياسة مستقلة كلما وجدت ذلك ضرورياً ومناسباً.
الحلف نفسه لا يستطيع، ولا يفكر أصلاً بالاستغناء عن تركيا التي تدافع عن حدوده شرقاً وجنوباً، إضافة إلى امتلاكها ثاني أكبر جيش فيه، وتقوم بمسؤوليات في معظم بعثات ومهام الحلف في العالم. وأي كانت الخلافات والتباينات السياسية، وحتى الفكرية، فإن ثمة قرار حاسم في الحلف مفاده أن لا استغناء عن دور أنقرة الحيوي والهام على المدى المنظور القصير وحتى المتوسط.
تركيا قد تفكر بشكل مختلف على المدى البعيد، وهي ستواصل مسيرة الاستقلال على كل الصعد وتقوية موقفها التفاوضي مع الحلف، كما مع شركائها الغربيين والإقليميين، أي روسيا وإيران
تركيا قد تفكر بشكل مختلف على المدى البعيد، وهي ستواصل مسيرة الاستقلال على كل الصعد وتقوية موقفها التفاوضي مع الحلف، كما مع شركائها الغربيين والإقليميين، أي روسيا وإيران. وفكرة الانفصال عن الحلف ستظل مطروحة جماهيرياً وحزبياً، وحتى فكرياً، في ظل عودة الأوراسيين القوية للساحة (ينادون بالابتعاد تماماً عن الغرب أو تقليص العلاقة معه لصالح العلاقة مع روسيا والشرق)، كما فكرة التوقف عن مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكنها ستظل دعوات نظرية فقط ومرتبطة بالتحولات الهائلة الجارية في تركيا المنطقة، والعالم بشكل عام، بمعنى أن نهوض وصعود عدة قوى عربية وإسلامية إقليمية في المستقبل؛ سيعيد أنقرة إلى فضائها الطبيعي والتاريخي في الشرق والجنوب، مع تحديث يلحظ عدم الانفصال أو قطع العلاقة تماماً مع العالم الغربي، بشقيه الأوروبي والأمريكي.