تخطّت السلطة اللبنانية الأزمة، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل اشتعال فتيلها من الرياض بإعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته. فالأسطر المعدودة التي تلاها الشيخ سعد من قصر بعبدا؛ شكلت إعلاناً رسمياً بتجاوز "القطوع السعودي"، واستئناف المسار السياسي الذي بدأ قبل أكثر من عام، مع بعض التعديلات الطفيفة التي ستطرأ على الأداء الإعلامي في المرحلة القادمة. فأمين عام حزب الله سيتجنب في قادم الأيام انتقاد دول الخليج، وهو لن يضغط على الحكومة للتنسيق مع النظام السوري بذريعة تسهيل عودة اللاجئين السوريين. من جهته، سيتجنب وزير الخارجية لقاء نظيره السوري أمام عدسات وسائل الإعلام، ولن يكرر وزيرا الزراعة والصناعة زيارة دمشق للمشاركة في معارض زراعية وصناعية، أما ما عدا ذلك، فإن الأمور ستعود كما كانت عليه قبل إعلان الاستقالة.
استعادة الدولة اللبنانية لأنفاسها، وعودة دوران عجلتها، لا تنفي حقيقة أن الأزمة أصابت جدران الثقة بين بعض الحلفاء بتصدعات وخدوش، بينما ساهمت الأزمة بتحسن العلاقة بين بعض الخصوم، فساد بينهم الودّ والانسجام، وانزاحت الانتقادات المتبادلة، ليحلّ مكانها الحرص والمراعاة والتقدير لمشاعر وظروف الطرف الآخر.
التغيرات الحاصلة في العلاقة بين الفرقاء ربما لا تدوم طويلاً، فلكل طرف سقفه الذي لن يتجاوزه إرضاء للآخر
التغيرات الحاصلة في العلاقة بين الفرقاء ربما لا تدوم طويلاً، فلكل طرف سقفه الذي لن يتجاوزه إرضاء للآخر، ومن المرتقب أن تعود العلاقة بين مختلف الأطراف إلى ما كانت عليه. وحدها العلاقة بين القوات اللبنانية وتيار المستقبل اتخذت طريقاً غير مسبوق من الفتور والنفور؛ لم يعهده الطرفان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. فالتأييد القواتي المبكر لاستقالة الرئيس الحريري من الرياض لم ترق للأخير، وجعل القوات عرضة للتشكيك بدور لها فيما حصل، علماً أن سعد الحريري أطل حينها بالصوت والصورة ليتلو بياناً مكتوباً أعلن فيه استقالته من رئاسة الحكومة. بعدها بأيام خرج الحريري على العالم؛ في مقابلة تلفزيونية أكد فيها على مضمون استقالته، ونفى كل الأقاويل التي راجت حول احتجازه من قبل السلطات السعودية وإرغامه على تقديم استقالته. وما زال الحريري يصرّ، حتى هذه اللحظة، على أن ما فعله في الرياض كان بملء إرادته، وأنه كتب بيان الاستقالة بنفسه، وأنه كان حراً في حركته وأنه.. فإذا صدّقنا ما قاله وما زال يقوله الحريري، تصبح السلبية التي يتعاطى بها مع القوات اللبنانية، ومع كل من رحب باستقالته، غير مفهومة ومستغربة.. وكأنّ الذنب الذي ارتكبته القوات هو أنها صدقت الحريري ولم تشكك بما قام به، فأيّدته ورحبت بما فعل. وهي بذلك رفضت أن تلتحق بركب قوى 8 آذار التي شككت بما قام به الحريري في الرياض، واعتبرته محتجزاً ومقيّد الإرادة من السلطات السعودية، الأمر الذي يشدد الحريري على نفيه.
ذنب المغضوب عليهم من سعد الحريري أنهم صدقوا ما فعل، ولم يشككوا به، بينما كوفئ خصومه لأنهم شككوا به ولم يصدقوه
ليس سراً أن القوات اللبنانية لم تكن سعيدة بالتسوية التي حملت العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا وحملت معها الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي. فهي اعتبرت أنها جاءت نتيجة تنازل الحريري، وقبوله بشروط حزب الله. لذلك كان منطقياً وطبيعياً أن تهلل القوات لاستقالة الحريري، وهي في جميع الأحوال هللت لتصرف قام به حليفها بملء إرادته – حسب قوله - وهي لم تهاجمه ولم تنتقده، كما فعل كثيرون.
ما سرى على القوات اللبنانية يسري على بعض الشخصيات داخل
تيار المستقبل؛ التي كانت صامتة طوال عام بسبب استيائها من التسوية التي قام بها الحريري، فإذا باستقالته من الرياض تعيد إليهم الروح، وتعيد إلى وجوههم الابتسامة، فإذا بالحريري يتراجع عن استقالته من بيروت، فعاد الوجوم إلى الوجوه من جديد.
ذنب المغضوب عليهم من سعد الحريري أنهم صدقوا ما فعل، ولم يشككوا به، بينما كوفئ خصومه لأنهم شككوا به ولم يصدقوه.