أخيرا، قتل ثعلب اليمن، بعد حياة حافلة بالتقلبات والتحالفات السياسية المتناقضة..
خاض ست حروب ضد الحوثيين، ثم ارتد على عقبيه وتحالف معهم. تخاصم مع السعوديين، وحين داهمته ثورة الشباب، استغاث بجيرانه ليداووه من جروحه البليغة ويمدوه بحبل النجاة.. وأنجدوه بالمبادرة الخليجية التي تنازل بموجبها عن الحكم، ولكن من دون تسليم السلطة لخلفه عبد ربه منصور هادي، مبقيا على عصبها الحيوي ملك يمينه: الجيش والقبيلة والمال.
ثم ما لبث أن انقلب على مجيريه، وعقد حلفا مع الحوثيين، زاجا بالبلاد في أتون حرب ضروس أتت على الأخضر واليابس..
وحين أنس شركاؤه منه الخديعة، بعد إعلانه الانتقال إلى المعسكر المقابل والانضمام لأعداء الأمس في التحالف العربي، فتكوا به وأردوه صريعا..
فمن المخلوع، إلى السابق، وصولا إلى القتيل، في مشهد دام ذكرنا بنهاية سلفه في ليبيا، قبل ستة أعوام..
هذا مشهد مأساوي لا يتمناه احد في العالم العربي، حيث يصر الزعماء على مقاومة التغيير، حتى يلفوا أنفسهم بين طريد وسجين وقتيل
لا شك ان هذا مشهد مأساوي لا يتمناه احد في العالم العربي، حيث يصر الزعماء على مقاومة التغيير، حتى يلفوا أنفسهم بين طريد وسجين وقتيل.
الواضح أن اليمن سيعاني كثيرا، وأن دائرة الصراع ستتسع أكثر فأكثر في الحرب المفتوحة بين الحوثيين وإيران من خلفهم، من جهة، والحكومة الشرعية المدعومة خليجيا والمعترف بها دوليا، من جهة أخرى. وسيضاف اليوم عنصر جديد، وهو روح الثأر لمقتل
علي عبد الله صالح بين أنصاره في المؤتمر الشعبي وحزام القبائل التي تقف معه.
وقد نادى أبناؤه بالثأر لمقتل أبيهم، وهذا يعني أن اليمن يتجه إلى أن يكون ساحة لحرب إقليمية؛ هي قائمة أصلا.. أما الرهينة، فالشعب اليمني المنكوب الذي أنهكته الحرب، قتلا وجوعا وأوبئة.
كان من الممكن تجنب هذا المصير المشؤوم لو تركت حرية الاختيار للشعب اليمني، بدل السعي لفرض القوى الإقليمية لعلي عبد الله صالح مجددا، ولو أن دول الخليج تحملت مسؤوليتها التاريخية في احتضان اليمن وضمه لمجلس التعاون الخليجي؛ لإحداث التوازن السياسي والديمغرافي المطلوبين.
كان من الممكن تجنب هذا المصير المشؤوم لو تركت حرية الاختيار للشعب اليمني، بدل السعي لفرض القوى الإقليمية لعلي عبد الله صالح مجددا
أما اليوم، فالجميع يدفع ثمن هذه السياسات الخاطئة والمكلفة لليمن وشعبه ولكل دول الجوار..
تعددت الأسباب والموت واحد. وبينما اختصر ديكتاتور تونس الطريق، وقلل من حجم الضحايا، حين امتطى طائرته الخاصة وغادر الأجواء التونسية، تشبث مبارك بالبقاء في مواجهة ثورة شعبه العارمة في 25 يناير، قبل أن يزيحه الجيش ويفرض عليه الإقامة الجبرية.. وأصر القذافي على عدم التنازل والمواجهة، إلى أن اختلط الحابل بالنابل، وجاء التدخل الأجنبي بقوة الناتو، وانتهى به المطاف صريعا بتلك الصورة المقززة..
واليوم، يتكرر المشهد الدرامي ذاته في اليمن مع مخلوعه..
بُذلت كل الأموال والحيل لايقاف موجة التغيير وتدميرها وخلط الأوراق.. في ليبيا واليمن ومصر وتونس وغيرها.. ولكن الثورات المضادة، مهما كانت قوتها وشراستها، لن توقف مسار الزمن، والباب الذي فتح سنة 2011 ليس من اليسير إغلاقه؛ لأن إكراهات التاريخ وقوانينه أقوى من حسابات النخب والرؤساء والملوك.
لقد دخل العالم العربي ديناميكية التغيير منذ الثورة التونسية التي فتحت شعار "الشعب يريد"، وكان عنوانها الحرية والكرامة.. ورغم حجم الارتداد والتراجع، لن تعود الأمور إلى الخلف، حتى وإن بدت أسوأ من الناحية السياسية في بعض البلاد العربية.
هي مسألة وقت، ولا مهرب من التغيير. قد تستغرق العملية أمدا، بسبب إرادة تجميد الأوضاع ومقاومة قوى إقليمية ودولية متنفذة
صحيح أن الأوضاع الني تلت
الربيع العربي كانت مثقلة بالأزمات والمشكلات، لكن التي أعقبتها لم تكن أحسن حالا. هي مسألة وقت، ولا مهرب من التغيير. قد تستغرق العملية أمدا، بسبب إرادة تجميد الأوضاع ومقاومة قوى إقليمية ودولية متنفذة، ولكن لا سبيل لإيقاف المسار إلا بخيارين لا ثالث لهما:
إما بالإقدام على تسويات وتفاهمات سياسية معقولة، تضمن الحد الأدنى الديمقراطي وتحترم إرادة الشعب على ما نحو نرى اليوم في تونس، وبدرجة أقل في المغرب، أو ترقب زلازل سياسية قادمة ستكون أعتى من سالفتها قبل ست سنين. فما جرى اليوم في اليمن ليس إلا مشهدا صغيرا لما عساه يحدث في السنوات القادمة.
نأمل أن يُختَصر الجهد والوقت، وتُحقَن الدماء بالذهاب الى إصلاحات حقيقية؛ تنزع فتيل الأزمات، وتزيح التوحش والعنف عن أنظمة الحكم العربي، ولإقامة جمهوريات ديمقراطية أو ملكيات دستورية منضبطة بالقوانين وارادة الشعب.