من وقت لآخر؛ يلجأ الإنسان لمراجعة ما حوله ويراجع الموقف، خاصة فيما يخص المشاهد المعقدة، مثل حال
الثورة المصرية والحال في الشرق الأوسط بشكل عام. ومراجعة الموقف تهدف عادة لرسم صورة الواقع للتخطيط للمستقبل. وبطبيعة الإنسان غير المحايدة، يستغرق في دراسة الواقع بشكل يسمح له بالخروج بالنتائج التي تناسب أحلامه ورغباته وتوجهاته، وآخرون قد يقرؤون الواقع بشفافية، ولكنهم يقفزون لنتائج لا تنسجم مع القراءة، ولذا قررت أن أحاول قراءة الواقع وتقديره ونستلهم من تجارب الثورات السابقة؛ ما قد يفيد في تغير الواقع، وبلا استنتاجات.
الواقع لا يُختلف عليه، ولكن قبل استعراضه علينا أن ندرك أن بالواقع بعض النقاط إذا قرئت منفصلة عن الآخريات، ستؤدي إلى حالة من الإحباط، فنرجو ألا نقرأها منفصلة عن بعضها، فالواقع يقول إن:
- الفساد الذي عشش على أرض مصر جعل من جيش كامب دايفيد حاميا له، وورطه في أعمال تحول دون إعادة اتحادهم مع الشعب. فلم يعد جيش الشعب، بل هو جيش الفساد، جيش كامب دايفيد (جيش العدو)، فهو يحمي العدوين الداخلي والخارجي الاستراتيجيين (الفساد والكيان الصهيوني)، فهو حاميهما من إرادة الشعب.
- المعركة لم تكن في يوم من الأيام بين العسكر والإسلاميين، كما يتصور البعض.. معركة مصر الحقيقية هي بين الشعب والفساد والسيطرة على الحكم، لذا فإنه يجب ألا نتوهم أننا نسعى لهزيمة العسكر، فمعركتنا ليست معهم، فنحن نسعى لإسقاط الفساد على كل المستويات، ونسعى لعودة جيش مصر.
- العسكر يمتلكون أدوات البطش، وهذا أمر طبيعي، فكل النظم الديكتاتورية والاستعمارية واجهت الشعوب بآلة بطش عاتية، ولكن ذلك ما يُنضج الثورة ويدخلها في مرحلة المواجهة والانتصار (ثورات أمريكا اللاتينية من أهم الأمثلة).
- المعركة مع قوى السيطرة الإقليمية والدولية؛ هي واقع ويجب عدم تناسيه، وهو ما يعتمد عليه النظام المصري، كما كل القوى الغاشمة. ويجب ألا نتناسى أن الثورة الشاملة هي ثورة موجهة ضد هذه القوى الداخلية والإقليمية، وأن القوى الدولية تتراجع أمام إرادة الشعوب (فيتنام وجنوب إفريقيا هما أقوى الأمثلة).
- النظام يحاول تضليل الثورة وإحباط المترددين؛ ببنائه ما سمي بـ"العاصمة الجديدة" في الصحراء، مدينة محاطة بالأسوار، وكأنه يقول لهم ثورة 2011 لن تتكرر، وهذا حق، ولكن من قال إن الثورة الشاملة ستحاكي ثورة 25 يناير، الثورة القادمة يجب أن تحسم خارج العاصمة، في النجوع والكفور فتُسقط العاصمة، ولو أُحيطت بسور الصين العظيم.
- قوى الثورة مفتتة وتتصارع فيما بينها، وليس لها قيادة موحدة، إلا أنه من السابق لأوانه الافتراض أن الثورة في هذه المرحلة تحتاج لقيادة. فالثورة لم تبن نفسها بعد، ولم تصل لمرحلة النضوج التي حينها ستستدعي هي القيادة من داخلها.. قيادة تتفق مع الظرف والزمان والمكان.
- القوى الإسلامية منهكة، وهي عماد الثورة، وليست هناك قوى أخرى قادرة على تصدر المشهد. وهذا الأمر طبيعي في مراحل الثورات، فالقوى يُعاد توزيعها على ساحة الصراع.
- النظام مسيطر على كل أدوات الحياة العامة من أجهزة الإعلام وأدوات التقاضي، وليس للثورة منفذ، وهذا أيضا أمر طبيعي. فإن كان الوضع غير ذلك، فأدوات الاختلاف متاحة ولا داعي للثورة. ولأن الأمر على هذا الحال، فنحن نحتاج للثورة. والثورة مكانها الطبيعي في الشارع، وليس على شاشات التلفزيون وصفحات التواصل الاجتماعي أو ساحات القضاء.
- النظام وآلته العسكرية تغلغلوا اقتصاديا، واستولوا على كل أدوات الإنتاج ووسائل التوزيع، وبذلك تمكنوا من حياة الشعب. إلا أن تبديدهم للثروات الطبيعية، من المياه والبترول والغاز، وسوء إدارة ما تبقى من الموارد، أدخل البلاد في أزمة اقتصادية حقيقية؛ تتزايد يوما بعد يوم. والسيطرة الاقتصادية لمنظومة العسكر هي سر ضعفها، وهي عامل أساسي في التعجيل بهزيمة نظريتهم في السيطرة والتحكم، فالأنظمة، كالامبراطوريات، تُهزم من الداخل، ثم تأتي القوى الخارجية لإسقاطها في اللحظة الحرجة، وهذا دور قوى الثورة.
- الثورة في مرحلة هدوء، ولا شك أن الثورات لا تستطيع أن تستمر في مراحل غليان دائم، وإلا يصيبها الإعياء. وهذا ما يصيب الأنظمة المتحكمة؛ لتيقظها الدائم لإخماد كل شرارة تنبعث للثورة. والثورة لن تشتعل غدا؛ إلا إذا كانت ثورة مفتعلة لإنقاذ النظام بتحقيق أهداف جزئية تؤخر الثورة عشرات السنين (مثال الثورة الإيرانية).
- الشعب الآن يمر بمرحلة بناء الثورة الشعبية الشاملة؛ التي لا تعني استئثار فصيل بها ولا استئصال فريق منها، وتقوم على أسس وحدة البقاء التي يحتاجها الشعب، من خلال تعميق مبادئ 25 يناير، من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ودون الاستسلام للشعارات الإيدولوجية والمذهبية، فهي ثورة كل الشعب العربي بلا استثناء.
لعلنا بذلك نكون قد رسمنا صورة واقع؛ دون الدخول في استنتاجات وخطط غير ذات قيمة. فقد علمتنا تجارب التاريخ أن الشعب دائما ينتصر، وأن الشعب حين يستيقظ من غفلته ويرى الحقائق لا يمكن أن يقهر. ونضوج الحركات الثورية يحتاج لمخاض طويل ومعقد، وعلى من يتعجل حسم المعركة أن ينسحب من المشهد؛ لأنه بذلك يحبط نواة الثورة ويعجل بهزيمتها، وإن لم يقصد.