هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في سيناء قتل في ساعة واحدة أكثر من ثلاثمائة مصل وهم ساجدون بين يدي الله في بيت الله في عملية عبثية لا يفهم لها أي حكمة، وفي اليمن يموت طفل كل عشر دقائق من أمراض يمكن الوقاية منها وفق مسؤول أممي، وفي الغوطة الشرقية بجوار دمشق يقف الناس على شفا المجاعة ويدعو رجل مسن فيها أن ينزل عليه صاروخ من السماء يريحه من عناء الحياة التي لا يستطيع فيها إطعام أطفاله.
أما في سجن قطاع غزة فهناك أكثر من مليوني إنسان محاصرون في أساسيات الحياة من كهرباء ودواء ورواتب وممنوعون من حرية الحركة وهناك مرضى يموتون بسبب إغلاق المعابر، وعلى امتداد أرجاء وطننا العربي هناك عشرات ألوف المعتقلين السياسيين الذين انتزعوا من أحضان ذويهم و غيبوا خلف القضبان ظلماً وقهراً، ما كان ذنبهم إلا أنهم آمنوا بالحرية والكرامة.
هكذا يبدو المشهد في الوطن العربي، لكن ماذا عن بقية العالم؟ هل يبدو بعيداً عن دفع الاستحقاق؟
تفيد أرقام برنامج الأغذية العالمي أن أكثر من ثلاثة ملايين طفل دون سن الخامسة يموتون سنوياً بسبب نقص الأغذية، وأن واحداً من تسعة أشخاص في العالم لا يجدون طعاماً كافياً للتمتع بحياة صحية، وأن هناك 66 مليون طفل في سن المدرسة الابتدائية في البلدان النامية يحضرون إلى الفصول وهم جوعى.
وتذكر مجلة لانسيت الطبية في دراسة قامت بها في مائة دولة أن ملايين الأفراد يموتون نتيجة إصابتهم بأمراض قابلة للعلاج بسبب عدم قدرتهم على تحمل النفقات.
على صعيد اختلال عدالة التوزيع يفيد مصرف القرض السويسري المتخصص في تقارير الثروة العالمية أن 1% من سكان العالم يمتلكون 50,1% من ثرواته، وفي الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم تفيد أرقام عام 2014 أن هناك مائتي مليون صيني يعيشون تحت خط الفقر وفق المعايير الدولية التي حددت معايير الفقر بدولار وربع يومياً، وأن هؤلاء الفقراء يعانون في الحصول على مياه الشرب وتأمين طرق المواصلات والكهرباء والتعليم والعناية الطبية.
أما على صعيد العنف فقد ذكر مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة أن عدد جرائم القتل عام 2015 وصل إلى 15696 جريمةً، وفي البرازيل فاق عدد القتلى خلال أربع سنوات عدد قتلى الحرب السورية، بمعدل 160 قتيلاً كل يوم، وذلك حسب أرقام نشرتها منظمة "فوروم" البرازيلية، أما عدد جرائم الاغتصاب فقد بلغ في سنة 2014 معدل جريمة اغتصاب كل إحدى عشرة دقيقةً حسب إحصاءات رسمية برازيلية.
ما هو الخط الناظم بين كل هذه الأحداث والأرقام؟
إن ما تبدو أحداثاً متفرقةً في العالم تخفي في باطنها سبباً توحيدياً إن تتبعناه اقتربنا من تشخيص المرض الرئيس الذي يعاني منه المجموع الإنساني، فالحروب و الفقر والجوع وغياب الأمن والتفكك الاجتماعي وجرائم القتل والاغتصاب هي النتيجة الطبيعية لغياب الظلم واختلال الميزان الأخلاقي: "ألا تطغوا في الميزان"، لكنها في الرؤية الإيجابية محرضات للإرادة الإنسانية لتنبيهها أن ثمة خللاً في المنظومة القائمة واستفزاز قوى المراجعة و البحث عن نظام أهدى وأقوم يحقق العدل والأمن للإنسانية.
يعلل القرآن صور العذاب التي تصيب البشرية على هذه الأرض بغاية تعليمية إيجابية: "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون"، فالصراعات والفقر والجوع وغياب الأمن المجتمعي والتغير المناخي عذابات يذوقها البشر بما كسبت أيديهم، لكنه يبقي باب التوبة مفتوحاً، فإذا قررت الإرادة الإنسانية الجمعية مراجعة مساراتها الخاطئة واهتدت إلى مسار العدل تغيرت النتيجة فنعمت الأمم بالأمن والرخاء والتنمية.
يؤكد اتساع رقعة المآسي الإنسانية وتنوع صنوفها أن غياب العدالة مكلف عالمياً وأن أكثر الناس متضررون من ذلك، فمن لم يمت بالسيف مات بغيره، ومن لم يذق الحرب والاستبداد السياسي ذاق الجوع والفقر والخوف، وهذا ما يجعل الدعوة إلى العدل ليست وعظاً أخلاقياً وحسب بل هي استشعار من الشعوب لمصالحها وإدراك أن غياب العدالة يعود بالنفع على فئة قليلة مستأثرة بالمزايا بينما مصلحة أكثر الناس أن يقوموا بالقسط ويتعايشوا على كلمة سواء فيأمن بعضهم بعضاً وتقتلع جذور العنف والكراهية.
صار العالم أكثر تشابكاً وتداخلاً، وهو ما يدفع إلى البحث عن سياق ناظم لقضاياه المختلفة والبحث عن حل جذري يتعامل مع المشكلات العديدة بأنها أعراض لاختلال واحد، فالثورة السورية مثلاً لم تتعثر لنقص في المخزون الثوري في الشعب السوري، بل تعثرت بسبب المعادلة الدولية التي تقبل بالظلم وتقويه إن كان يحقق مصالح الدول الكبرى، والفقر والجوع في العالم هو نتيجة سياسة توزيع الثروات وليس نقصها ، والسجين السياسي هو ضحية تجاهل معايير حقوق الإنسان في العلاقات الدولية، ولو أعطى العالم أولويةً لتعزيز العدالة وتقليص الفجوات وتوافق على معاقبة أي دولة تنتهك حقوق الإنسان الأساسية لحلت أكثر مشكلات العالم.
والعنف هو ثمرة الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي و الشعور باليأس والعجز، ولو استثمر العالم في الديمقراطية الحقيقية وشعر الناس بكرامتهم وتمكنوا من المشاركة السياسية الفاعلة لجففت منابع التطرف والإرهاب ولما وجد المتطرفون بيئةً خصبةً للنمو والانتشار.
غياب العدل هو مشكلة عالمية تتمثل في القوى الكبرى التي أقامت المعادلة الدولية على أساس مراعاة مصالحها وخدمة نفوذها، ولم تعبأ بحقوق الإنسان أو إرادة الأمم، فابتدعت حق النقض الفيتو لمعارضة أي إرادة دولية تقف عائقاً في سبيل تحقيق مصالحها؛ هذا الاختلال في قمة الهرم الدولي هو المسؤول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن كل المشكلات العالمية، إذ إن الصيغة التي تتكون منها المعادلة الدولية أضعفت من اعتبارات حقوق الإنسان وأعطت الشرعية للدول بما تمتلكه من أدوات إكراهية لا بشرعيتها الأخلاقية.
ثمة من يرى الدعوة إلى الأخلاق في السياسة الدولية ضرباً من الطوباوية المثالية، وقد كان يمكن أن نستسلم لهذا الرأي لولا ما نراه من تحقق نجاحات جزئية في المشهد الدولي، فقد مثلت مواثيق الأمم المتحدة تقدماً مهماً في اتجاه العدالة ووضعت كل الضمانات الممكنة لصيانة حقوق الإنسان وكرامته وأمنه الاجتماعي.
وجود هذه المواثيق في ذاته يؤشر على نضج الوعي الإنساني، إذ إن كثيراً من القيم التي تحولت اليوم إلى اتفاقات ومعاهدات دولية لم تكن مطروحةً في الوعي البشري في الزمن القديم، وهو ما يفتح باب الأمل بجدوى النضال في هذا الاتجاه من أجل تعزيز الإنجازات والمراكمة عليها.
لقد نضجت مفاهيم العدالة بقدر كبير في المستوى النظري للوعي الإنساني، وما ينقص البشرية اليوم هو إسناد هذه المبادئ والقرارات بقوة تنفيذية قادرة على فرض القانون على جميع الدول، وهذا ما يعزز موقف النضال في سبيل إقامة العدالة العالمية، إذ إن هذا النضال لن يتحمل مشقة خلق مبادئ حقوق الإنسان من جديد والتنظير إليها، بل ستتمثل رسالته في إقامة حلف عالمي يحرر القرارات الدولية من الارتهان لمصالح الدول الكبرى ويجعلها أكثر مراعاةً لحقوق الإنسان وحرية الشعوب..
الدعوة إلى إقامة العدالة الدولية لا تراهن على أخلاقية الدول الكبرى ومبادرتها الطوعية للانتصار لحقوق الإنسان، بل تراهن على إعادة توزيع مراكز القوى لتقييد انفلات تلك الدول، والطريق إلى ذلك يكون عبر تقوية سلطة الأمم المتحدة التي ترشحها طبيعة تكوينها لتكون أكثر ديمقراطيةً من مجلس الأمن، لأنها تقوم على التصويت العددي ومبادئ حقوق الإنسان، وهو ما يجعلها أقرب إلى نبض الضمير الإنساني، ولو أن قرارات الأمم المتحدة الصادرة في العقود السابقة كانت تمتلك السلطة الإلزامية لحلت كثير من مشكلات العالم المتعسرة بسبب أطماع الدول الكبرى وحسابات مصالحها.
ثمة رافد ضروري من أجل تعزيز العدالة العالمية، وهو تقوية دور المنظمات الأهلية غير الحكومية، إذ تمثل هذه المنظمات التفاعل المباشر مع ضمير الشعوب وحقوق الإنسان، فإذا قويت هذه المنظمات وامتلكت سلطةً مجتمعيةً حقيقيةً مثلت قوة ضغط إيجابية على الحكومات لمراقبتها وإلزامها بمعايير العدالة.
في العالم كثير من المناضلين في سبيل العدالة، لكن عدم وجود مظلة دولية مساندة لهم أضعف من قدرتهم على تحقيق نتائج سياسية، وكم من الأبطال عاشوا وماتوا في السجون ولم يعرف العالم عنهم شيئاً، ولو توحدت هذه الجهود المتناثرة في إطار تنسيقي واحد يضع عنوانه الرئيس تعزيز حقوق الإنسان في النظام الدولي والانتصار لكل قضايا العدل دون تمييز فإن النضال سيكون أرجى..
يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول الذي أنشأه العرب قبل الإسلام من أجل نصرة المظلوم: "لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت" والبشرية اليوم في حاجة ملحة إلى إقامة حلف فضول عالمي يجاهد في سبيل نصرة قضايا الحق والعدل، وهل هناك أعظم وأنبل من أن ينذر المرء حياته نصرةً للمظلومين والمستضعفين؟