هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مثل الفساد لعقود طويلة أحد أخطر الأمراض السياسية والاجتماعية والاقتصادية استفحالا، فتحول إلى آفة تنخر المجتمعات العربية بمختلف فضاءاتها، وتربك نهوضها، وتجهض تطلعات أجيالها للنهوض والازدهار. مرض معطوف على الاستبداد وغياب الديمقراطية والحكم الرشيد، استحال معه الاجتماع السياسي العربي إلى أزمة عامة مستحكمة، وضعت الكثير من الدول العربية في صدارة الدول الأكثر فسادا، وأخرى الأكثر استبدادا، وبعضها ضمن الدول الفاشلة أو على وشك الفشل.
ولعل تلك الأوضاع السائدة لعقود من الزمن هي التي كانت السبب الأساسي للانتفاضات العربية التي اندلعت في شتاء العام 2010 ووصلت ذروتها في 2011، مع ما سبقها أيضا من احتجاجات لسنوات تمكنت الأنظمة العربية مشرقا ومغربا من السيطرة عليها وإخمادها قهرا حينا واحتواء أحيانا.
تقرير صدر أخيرا عن منظمة الشفافية الدولية اعتبر أن الحرب على الإرهاب في ظل استشراء الفساد واستفحاله لن تكون ذات جدوى. وذهب التقرير أبعد من ذلك حين اعتبر أن الفساد واستشراءه محفزا أساسيا للإرهاب. منظمة الشفافية الدولية قالت إنه لا يمكن أبدا هزيمة "تنظيم الدولة" مالم يتم التعامل مع الظروف الفاسدة التي تساعد هذا التنظيم على النمو والتمدد.
اللافت أيضا أن التقرير اتهم حكومات الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، بتجاهل الفساد كمحفز رئيسي يؤدي إلى انتشار الإرهاب، خاصة في الشرق الأوسط، داعيا هذه الحكومات إلى الضغط بدرجة أقوى من أجل ضمان المحاسبة فيما يتعلق بالميزانيات العسكرية. كاثرين ديكسون مديرة برنامج الدفاع والأمن في منظمة الشفافية الدولية قالت إن الفساد هو الصرخة التي يجمع بها التنظيم المؤيدين كأحد الأساليب الرئيسية لعمله. وحذرت ديكسون من أن "الإخفاق في استيعاب ذلك يقوض الجهود الرامية لمعالجة صعود التطرف العنيف".
ديكسون أكدت أن "الأمر لا يتعلق بمجرد إغلاق قنوات الفساد التي تزيد قدرة العمليات اليومية لجماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية بل بإعادة التفكير في العلاقات مع أمثال مبارك جديد في مصر، وقذافي جديد في ليبيا، ومالكي جديد في العراق، والذين قد يظهرون في المستقبل. ويبدو أن بعضهم ظهر أصلا، وبعضهم يحاول تبوأ موقعه في هذا الصدد".
يسارع بعض الفاعلين من السياسيين وحتى الباحثين في العالم العربي إلى البحث عن الحلقات الضعيفة في محاولة تفسير ظواهر التشدد والتطرف والإرهاب المتصاعدة في المنطقة العربية. ويستسهل الكثير منهم التفسير بالعامل الواحد الذي يختزل صعود وانتشار ظواهر التشدد والتطرف في مفاصل الثقافة الإسلامية أو الفكر الإسلامي. فيتهم الكثير من هؤلاء الباحثين فكر ابن تيمية أو الوهابية ثم لاحقا فكر الإخوان كثقافة محفزة بل وراعية للإرهاب والتطرف.
الأيديولوجيون المتطرفون منهم يذهبون أبعد من ذلك فيتهمون "النص الديني" نفسه.
منظمة الشفافية الدولية اعتبرت أن المجتمع الدولي يبذل جهودا هائلة لمواجهة "أيدولوجية" جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، بالتركيز على الخطاب الديني الرنان الصادر عن هذه الجماعات، لكنه يتجاهل تماما الظروف المادية التي تزدهر فيها.
والظروف التي تزدهر فيها لا تخفى في العالم العربي، منطقة تحكمت فيها لعقود طويلة أنظمة استبدادية، بل استبداد معطوف على الفساد في التصرف والإدارة والفشل في الانجاز والتنمية، أنظمة لا تعبر عن إرادة شعوبها ولَم تصل للحكم عبر صناديق الاقتراع إلا قليلا، رسخت الحكم الفردي، مستعملة كل أشكال الإخضاع والتحكم، وأهدرت كرامة مواطنيها، وانتهكت حرياتهم وحقوقهم الأساسية، وصاحب كل ذلك عجز واضح عن تحقيق تنمية اقتصادية أو عدالة اجتماعية أو فرص للنهوض والتقدم، كل ذلك معطوف على فساد مستشر ينخر البلاد أجهزة واجتماعا، فساد يكتسح فضاءات الدولة والمجتمع، فيوهن الأولى ويخرب العمران في الثانية.
الحقيقة أن الكثير من الأنظمة العربية أخفقت في محاربة الفساد، بل تورطت في تعميقه وتكريسه جزءا من بيروقراطية الدولة الناشئة ما بعد الاستقلال. فأصبح الفساد جزءا أصيلا في بنية الدولة ومعقوليتها. وتعكس هذه الحالة من الفشل في معالجة الفساد كأمر محوري لتحقيق التنمية المستدامة درجة الدول العربية على مؤشر مدركات الفساد، فغالبية الدول العربية تراجعت تراجعا ملحوظا في العلامات، حيث أن 90 في المائة من هذه الدول حققت أقل من درجة 50 بالمائة.
واستشراء الفساد يمثل عملية تخريبية متدرجة ولكنها عميقة، تضرب البنية السليمة لمؤسسات الدولة والمجتمع، وتترسخ عقلية تتحكم في السلوك الفردي والجماعي، وتحدث نوعا من الديناميكية السلبية، يتحول معها الفساد إلى منظومة مستحكمة، ويصبح تدبير الشأن العام والخاص أشبه بالمستحيل خارجها. هذه المنظومة بقدر ما تسهل للقلة المندرجة فيها تدبير شأنها وتحقيق مصالحها، بقدر ما تقوض فرص الأغلبية في تدبير مصالحهم وتحقيق تطلعاتهم كمواطنين عاديين.
وكلما استحكمت منظومة الفساد وانغلقت على بعض الفيئات المنتفذة، كلما تحولت تطلعات شرائح واسعة خاصة في صفوف الشباب المليء حماسة ورغبة في الإنجاز، إلى كابوس وحالة من الاحباط وانسداد الأفق، وتتوالد حالة الاحباط وتتغذى من بيئة طاردة، وحاضنة لثقافة الانتقام والتمرد، إما عبر الانتقام من الذات، استسلاما للمخدرات والانكفاء، أو انتقاما من المحيط، جريمة منظمة وتخريبا، أو اجتراح لعالم رمزي غير مدنس، ينزلق من خلاله الشباب إلى فكر التشدد والتطرف.
تواجه مجتمعاتنا العربية اليوم مشكلات مركبة، يجعلها مستحكمة وعصية على المعالجة. فبين أنظمة سياسية سياسية يجمع الرأي العام العربي على أنها في الحد الأدنى غير ديمقراطية وغير ممثلة بشكل حقيقي لإرادة شعوبها، وبين استشراء الفساد المتحول جزءا أصيلا من النظام السياسي، يعاني العالم العربي من أزمة مستحكمة. أزمة طالت مفاصل الدولة، ومست جميع شرائح المجتمع، وأفرزت ظواهر البطالة المستفحلة، لا سيما في صفوف الشباب.
يمثل الفساد اليوم المحفز الأساسي للإرهاب في العالم العربي، بل قد لا نبالغ إذا قلنا بأن الفساد يمثل في حد ذاته شكلا من أشكال الإرهاب. وتقتضي هذه الخلاصة أن تقتنع الجماعة الوطنية، والمجتمع الدولي بأن الحرب الجدية والحقيقة على الارهاب تبدأ بتقويض رافعته الأساسية، ورافعته الأساسية اليوم هو الفساد. الفساد الذي يشل إرادة الشعوب العربية في الإقلاع التنموي والاقتصادي، ويبدد آمالهم في مسقبل أكثر أمنا اجتماعيا واقتصاديا، ويحيل مؤسسات دولتهم إلى هياكل متآكلة، تتحكم فيها منظومة الفساد فتوهنها. فالطريق القويم لتجفيف منابع الإرهاب، يبدأ بالحرب على الفساد، حرب مطلوب من المجتمع الدولي دعمها، لا دعم أنظمة غير ديمقراطية، هي الوجه الآخر للفساد بكل تجلياته. فالفساد السياسي هو الطريق اليسير لاستشراء الفساد، وخلق البيئة المناسبة لبروز عوامل التشدد، فالإرهاب.