هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كما أن التاجر يراجع دفاتره القديمة عندما يفلس، فالعرب يقتاتون على سنام الذاكرة، ويستعيدون أمجاد الأسلاف الذين (الأسلاف) يتميزون غيظا لتعدي عرب الألفيتين الثانية والثالثة على أملاكهم الفكرية.
ثم أدرك العرب المعاصرون أنه "ما يصير" تتباهى بالخوارزمي والتوحيدي واليعقوبي، إزاء تباهي الغرب بآينشتاين ونيوتن وباستور، فعكفوا مستعينين بغوغل على التنقيب عن نظراء للمكتشفين والمخترعين الغربيين من اليعاربة، وسرّوا كثيرا بالعثور على أطباء وعلماء ومهندسين ومفكرين ومخترعين ذوي شَنّة ورَنّة يعرفهم أهل جميع القارات.
وعندما اكتشفوا أن إخوتهم أولئك نالوا المجد فقط بعد الانتقال إلى أوربا وأمريكا الشمالية، نصبوا سرادق العزاء ولطموا الخدود حزنا على هجرة العقول العربية، ويفوت علينا أن تلك العقول كانت مجرد عجول، عندما كانت تعيش بين ظهرانينا.
ما حملني على تقليب المواجع، هو ما تناولته في مقالي الأخير هنا عن الحال المزري للجامعات العربية، استنادا إلى تقرير نشرته عربي21 في الأسبوع الأخير من تشرين أول/ أكتوبر المنصرم، عن التصنيف السنوي للجامعات في العالم، وتفسير لماذا استحقت جامعاتنا الذيلية..
أحمد زويل صار عربيا بعد نيله جائزة نوبل، وكان تعريبه قسريا، ولا يختلف عن تعريب الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنَن، الذي جعلناه "عنان"، باعتبار أن جدّه الخمسين بعد الألف، كان يعيش في الكوفة ثم هاجر إلى غانا فكان أن صار الحفيد غانيّا (ولم نتساءل متى ارتدت العائلة عن الإسلام، وهل تستحق نفس المعاملة التي قررها الخميني لسلمان رشدي؟).
يذكرني ذلك بتباهي الإعلام العربي بوصول كارلوس منعم إلى سدة الرئاسة في الأرجنتين (1989-1999)، لأنه من أبوين سوريين مسلمين، وتزوج بمسلمة (سليمة فاطمة جمعة) ثم طلقها في عام 1991، وفات على ذلك الإعلام التنويه بأنه إذا ظل كارلوس ذاك سوريا يعيش في سوريا، لما تسنى له حتى رئاسة نادي إدلب يونايتد لتنس الطاولة (وتغاضى الإعلام عن أن كارلوس منعم ارتد عن الإسلام: يكفي أنه رفع رأسنا وصار رئيسا لأغنى بلد في أمريكا الجنوبية).
هناك نبع ماء في البحرين يحمل اسم "عين عذاري"، يعيب عليه أهل البلاد أنه يسقي البعيد لأن مياهه تتدفق على مسافة بعيدة من مصدرها، وهذا هو حال أهل لبنان، فما من دولة في أمريكا اللاتينية، إلا وفي مناصبها العليا شخص ذو أصول لبنانية، ينال ثقة الناخبين، بينما يعجز لبنان الذي أنجبهم عن اختيار قيادات تحكمه وهو الوطن الأم.
وقد يفسر ذلك لماذا لا يتباهى اللبنانيون مثلا بدانييل أورتيغا رئيس نيكاراغوا، الذي هزم الأمريكان وصنائعهم "الكونترا"، ويتباهون بالمطربة شاكيرا (اسمها الأصلي شاكرة محمود)، والممثلة سلمى هايك (أصلا حايك).
ولكن شاكيرا اشتهرت لأنها كولمبية، وعائدات بيع واحدة من أسطوانات أغنياتها يعادل دخل لبنان من السياحة في سنة كاملة، ودخل نجوى كرم ونوال الزغبي وأخواتهما لعشرين سنة، وسلمى هايك مكسيكية، ولو ظلت لبنانية لشاركت - في حال كونها محظوظة - في مسلسل رمضاني ركيك يوفر لها أجرة المسكن لستة أشهر.
وقد يتباهى بعض اللبنانيين بمن شغلوا من أبناء عمومتهم مناصب دستورية وتنفيذية عليا في أمريكا اللاتينية، ولكنهم يتكتمون على أن رئيس إكوادور الأسبق عبد الله بوكرم منهم وفيهم، لأن البرلمان قام بإنهاء خدماته بعد وصوله إلى قصر الرئاسة بسبعة أشهر في آب/ أغسطس 1996، فقد أدرك الرجل بعد تسنم كرسي الحكم أنه عاجز عن الوفاء بالعهود التي قطعها للشعب فصار يحمل غيتارا يعزف به في الميادين العامة وكان عزفه الموسيقي ركيكا، فخرجت المظاهرات تطالب بطرده من قصر الرئاسة ومنعه من العزف فهرب إلى بنما وما زال مقيما هناك.
ما أود قوله في هذا المقال والمقالات التي تليه بنفس العنوان أعلاه بحول الله هو أن بلاد العرب طاردة لذوي العقل والخبرة والدربة والموهبة، وما نال عالم أو مفكر أو مهني عربي التقدير العالمي إلا بعد أن هاجر إلى بلد يحترم العقل والعلم.
بذمتكم، هل كان إدوارد سعيد سيجد من يقرأ له إذا كان فتحاويا أو حمساويا؟ هل – أصلا - كان ذهنه سيتفتح ويكتب قلمه كل ما يريد بصدق لو لم يصبح أمريكيا؟ هل كانت زها حديد ستصبح أشهر و"أغلى" مهندس معماري في العالم خلال الخمسين سنة الأخيرة، لو بقيت في العراق، حتى لو كانت مدعومة بالحشد الشعبي؟
خلوها على الله