هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد فترة صمت رسمي وإعلامي، تخللها الحديث عن توسيط الرياضُ بغدادَ لتحسين العلاقات مع طهران، ما زاد من شعور الأخيرة بنشوة القوة والانتصارات في سوريا والعراق، عاد البلدان إلى التراشق السياسي والإعلامي مجددا، وبشكل غير مسبوق؛ تجاوزت أبعاده السقف المعهود إلى ما هو أخطر، عبر إلقاء تهمة "العدوان العسكري المباشر" تجاه إيران، من قبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ الذي أكمل بقوله إن ذلك "قد يرقى إلى اعتباره عملا من أعمال الحرب ضد المملكة"، وذلك خلال اتصاله الهاتفي مع وزير الخارجية البريطاني، على خلفية إطلاق الحوثيين لصاروخ باليستي على العاصمة الرياض.
الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري لم يكن يوما عاديا، لا في السعودية ولا في المنطقة برمتها.. مستجدات هذا اليوم ستظل حاضرة في جملة المتغيرات في منطقتنا خلال الفترة المقبلة. شهدت المنطقة خلال أقل من 24 ساعة ثلاثة أحداث مهمة: "إعفاءات واعتقالات تاريخية" في السعودية، و"استقالة" رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وإطلاق الحوثيين صاروخا باليستيا على الرياض. وحدثا الاستقالة والهجوم الصاروخي؛ فجّرا تصعيدا خطيرا بين السعودية وإيران.
تعزو نخب وجهات رسمية إيرانية أسباب التصعيد السعودي، إلى "الزلزال السياسي" الداخلي في السعودية
ما يجري يتعدى كونه امتدادا لمسار تراكمي مأزوم بين إيران والسعودية. التصعيد الإقليمي الراهن تدشين أمريكي لمرحلة ما بعد داعش في المنطقة؛ عنوانها "إيران أولا"
ما يجري اليوم يتعدى كونه امتدادا لمسار تراكمي مأزوم بين إيران والسعودية خلال أربعة عقود، وبالذات السنوات الماضية.. القصة أكبر من ذلك، فالتصعيد الإقليمي الراهن هو تدشين أمريكي لمرحلة ما بعد داعش في المنطقة؛ عنوانها "إيران أولا"، ويفترض أن تدخل فيها مواجهة إيران حيز التنفيذ.
في هذه المرحلة، سوف يتم توظيف نتائج المراحل السابقة في المنطقة منذ 2011، من صراع طائفي واستبدال إسرائيل كعدو بإيران، كوقود للمرحلة الجديدة التي ستأخذ فيها مواجهة إيران أشكالا متعددة وفي أكثر من اتجاه.
ثمة عوامل تدفعنا للقناعة بأنه قد حان الوقت لكي تدخل الحرب الباردة المدفوعة أمريكيا بين إيران والسعودية؛ مرحلة جديدة خلال الفترة القادمة، في ظل تضاؤل فرص الحلول السياسية للأزمات بينهما، وأنها ستذهب باتجاه فصول أكثر سخونة من قبل، ولا يمكن التكهن بمآلاتها؛ إن كانت ستبقى دون سقف المواجهة العسكرية أو تتجاوزها.
مرحلة جديدة في ظل تضاؤل فرص الحلول السياسية للأزمة، وربما تذهب باتجاه فصول أكثر سخونة، ولا يمكن التكهن إن كانت ستبقى دون سقف المواجهة العسكرية
وقبل التعرض لهذه العوامل، لا بد من القول إن الصراع الإيراني السعودي ليس منفصلا عن صراع هو الأكبر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بل هو امتداد له وجزء منه.
أهم تلك العوامل؛ أنه أولا، بعد التخلص من "العدو القريب"، أي الإسلام السياسي السني بفعل الثورات المضادة، ووصول الحرب على داعش إلى فصولها النهائية، لم يعد هناك ما يشغل بال الإدارة الأمريكية وحلفائها السعوديين والإسرائيليين؛ أكثر مما يوصف بـ"خطر إيران" وحلفائها، ما يدفع باتجاه احتمال أن الدور قد حان عليها.
ثانيا، توقيت الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمواجهة إيران، ورفضه التصديق على التزام طهران بخطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وكذلك تصعيد واشنطن خطابها العدائي تجاه إيران، ولو أنه غير مقترن بأفعال حتى الآن.. كل ذلك له دلالاته الزمانية الخاصة، حيث أن ذلك كله جاء بينما الحرب على داعش قاربت على نهايتها، مما يعزز ما ذهبنا إليه آنفا من أن مواجهة إيران وحلفائها ستكون عنوان مرحلة ما بعد داعش في المنطقة.
بعد التخلص من أي الإسلام السياسي السني، ووصول الحرب على داعش إلى فصولها النهائية، لم يعد ما يشغل بال الإدارة الأمريكية وحلفائها أكثر من "خطر إيران"
كيف ستكون أشكال التصعيد والمواجهة؟ هل ستتخذ بعدا عسكريا وحربا طاحنة؟ هل هي حرب محدودة أو واسعة؟ وهل ستكون مع إيران نفسها أم مع حزب الله؟
أما الآن السؤال المنطقي الباعث على هذه السطور؛ فهو: كيف ستكون أشكال التصعيد والمواجهة؟ هل ستتخذ بعدا عسكريا وحربا طاحنة؟ وإذا اتجهت نحو مواجهة عسكرية، كيف ستكون طبيعتها؟ هل هي محدودة أو واسعة؟ وهل ستكون مع إيران نفسها؟ أو مع أقوى حلفائها في الإقليم، أي حزب الله؟
لا يمكن تقديم إجابات شافية على تلك الأسئلة الملحة، ما دامت جسامة وأهوال التطورات والمتغيرات وطغيان عنصر المفاجئة عليها؛ تجعل من الصعب التكهن بشيء ما، إن لم يكن ذلك مستحيلا. مع ذلك، لا يمكن إبعاد أي من الاحتمالات المذكورة في زمن يصبح فيه المستحيل ممكنا. فمن كان يتوقع أن يُعتقل هذا العدد الكبير من الأمراء البارزين في السعودية معا وفي آن واحد؟ اليوم يحصل ذلك دون أي كابح ومانع.
رد إيران على التصعيد السعودي يوحي بأنها ليست معنية بتصعيد مماثل على "الطريقة السلمانية"، وجاء في هذا السياق إغلاقها صحيفة "كيهان" ليومين، بعد نشرها عنوانا مثيرا حول استهداف دبي بعد الرياض، واعتبار ذلك أمرا يمس الأمن القومي الإيراني.
كما استشعر الرئيس روحاني أن السعودية ربما تحضّر لأمر ما، لذلك رد على التصعيد السعودي بمخاطبة الرياض - باستهزاء - بأن "من هو أكبر منكم لم يستطع فعل أي شيء ضد الشعب الإيراني"، في إشارة إلى الولايات المتحدة الامريكية.
طهران بنفسها الطويل تفضل اليوم احتواء هذا الموقف دون تراجع في سياساتها الإقليمية