السمة الأكثر بروزا في الشرق الأوسط اليوم هي التسارع على اجراء تموضعات جديدة لأطراف اللعبة الإقليمية، بما فيها من تفكيك لتحالفات قديمة وتشكيل أخرى جديدة، وذلك على وقع النتائج التي تمخضت عنها الحرب السورية وتجلي المشهد على صورة جديدة فاجأت حتى الاطراف التي عملت على صناعته، ما شكّل حالة من الإرباك والتوتر.
ليس خافياً أن السبب الرئيس يعود إلى حقيقة أن جميع الأطراف لم يكن لديها إستراتيجية خروج، فالجميع خاضوا الحرب في سورية على ضوء تقديرات تشير إلى إستمرارية اطول، والمفارقة أن التقنيات التي أنتجت المشهد الحالي لم تكن سوى تكتيكات منفصلة لم يكن المقصود منها إنهاء الحرب بقدر تقوية مواقف الأطراف وتوسيع هوامش المناورة والحركة لديها.
وإذا كانت تلك التقنيات قد عطّلت مكائن الحرب وشلت حركة آلتها، وخاصة على الجبهات الرئيسية في الحرب السورية، إلا أن الواضح فيها أنها شيدت عمارتها على السطح دون الإهتمام ببناء الأساسات، التوافق السياسي على إنهاء الحرب، والذي يبدو انه لن يتحقق في وقت قريب، والتوافق بين الأطراف المنخرطة على صيغة الحل، بما يعني ترك فسحة كبيرة لمواصلة النزاع وإحتمالية تمدده إلى الجوار الإقليمي الذي يشهد حالة من الغليان الغير مسبوقة.
أمام هذا الوضع ينهض حراك إقليمي متلهف لمعرفة وقائع اليوم التالي، ما هي حصة كل طرف وما ستكون نتيجة إستثماره، بل كيف يمكن في هذه الأوضاع حساب الأرباح والخسائر، وما يزيد من حدة إرباك الأطراف الإقليمية رؤيتها لترتيبات روسية- أميركية، جزء منها معلوم، لكن الجزء الأكبر مخفي وغير معلن.
وتكمن مشكلة القوى الإقليمية" إيران وتركيا وإسرائيل" وكذلك المحلية" النظام والأكراد والمعارضة" في أن ماحققه كل طرف منهم في سورية ليس أكثر من كرت فيزا " شريحة" إما ان يجري تفعيلها وتصبح قابلة للإستثمار وإما ان يتخطى الزمن تقنيتها وتصبح غير صالحة لشيئ.
وتكمن المشكلة الأخرى في توجس الأطراف الإقليمية من إحتمالية حصول إنزياحات في التموضعات السابقة تجلب عليها مخاطر غير محسوبة، صحيح أن روسيا حتى اللحظة لا يبدو أنها ستتخلى عن إيران، ولا أميركا عن الأكراد في سورية، لكن سيولة المتغيرات تجعل أي طرف غير قادر على التنبؤ بما سيفعله هو نفسه في اليوم التالي، كما أن الإستراتيجيات في هذه الظروف يجري بناؤها خطوة خطوة مع قابلية كبيرة لإجراء تحديثات يومية عليها، فالإستحقاقات التي تحملها المراحل القادمة وخاصة اعادة الإعمار ستشكل ديناميكية لتغيرات مهمَة في المواقف.
قد يكون انخفاض حدة الصراع في سورية عاملاً مساعداً على خفض مستوى التوتر بين الأطراف، لكنه من جهة اخرى سيدفع إلى شكل جديد من التحالفات نظرا للإستحقاقات التي يولدها. كما أن هذه الأوضاع من شأنها إيجاد ظروف جديدة من شأنها إعادة تركيب التحالفات وإعادة صياغة الجبهات على أسس جديدة، ومحرك هذه العملية سبكون إما مواجهة اخطار مشتركة أو إستشراف مكاسب إستراتيجية نتيجة تبدل حسابات الأطراف.
وفي صورة هذا المشهد وطبيعة حراكه، ثمة جبهات مقبلة على تفجيرات خطيرة، ولا يوجد ثمة إمكانية واضحة لإجراء تعديلات على مسارات الأزمة فيها، وخاصة جبهة اسرائيل – إيران، والجبهة أو الجبهات الكردية، حيث تعكف إسرائيل على فحص خياراتها وتدرس قدراتها وهل تنتظر حتى تستقر الأمور لإيران ام تذهب صوب ضربة إستباقية وتجبر روسيا وأميركا على إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وهو ما يبدو ان اسرائيل تتجه له.
وفي الملف الكردي، من غير المتوقع تراجع الأكراد إستراتيجياً، سواء في العراق او في سورية، بعيداً عن شكل التكتيكات التي سيتبعونها، فهم يرون انهم امام فرصة رغم كل المخاطر التي تنطوي عليها، إلا أنهم في وضع لم يكونوا بمستواه في تاريخهم الحديث، ليس فقط على مستوى علاقاتهم مع اللاعبين الدوليين الكبار، بل وعلى مستوى بلورة مواردهم وإستعداداتهم التي وصلت لدرجة غير مسبوقة والتي لن تتكرر في حال ضياع الفرصة الآن.
ما يتغير هو شكل الأزمة وإطارها، فالأزمة السورية في بعدها الداخلي أصبحت ممسوكة من قبل اللاعبين الكبار وخاضعة لحساباتهم ورؤاهم بعد أن جردت الأطراف الداخلية من قدرتها على المناورة، في حين أن موضعة نتائجها على المستوى الإقليمي هو الذي يشهد تفاعلات عنيفة تهدّد بإعادة خلط الأوراق من جديد وينذر بصدامات وشيكة لإعادة التوازن الذي تخلخل لصالح أطراف محدّدة في اللعبة الإقليمية، وقد حصل ذلك نتيجة تدخل روسيا وتخاذل اميركا، وليس نتيجة قوّة الطرف الذي يبدو أنه كسب حتى اللحظة.