اكتسبت زيارة رئيس الأركان
الإيرانية اللواء محمد باقري لأنقرة في الخامس عشر من آب/ أغسطس 2017 قدرا كبيرا من الأهمية، وأثارت تساؤلات شائكة لدلالاتها وتوقيتا ومضمونا، كونها أول زيارة لمسؤول عسكري إيراني بهذا المستوى إلى
تركيا، منذ انتصار الثورة عام 1979.
وسط التوترات، والمواجهات بالنيابة، والحرب الكلامية التي حفلت بها العلاقة بين طهران وأنقرة خلال السنوات الأخيرة بعد انطلاقة
الربيع العربي، بسبب تصادم مصالح ورؤى الطرفين في ساحات إقليمية عديدة، نجحت الدولتان ببراغماتية عالية في الحفاظ على العلاقات السياسية والاقتصادية، وتواصلت الزيارات واللقاءات على أرفع المستويات.
ليس منطقيا تحميل الزيارة أكثر مما تحتمل، وتناولها بتسطيح أو تهويل، نعم اليوم ما يجمع البلدين يطغى على ما يفرقهم، لكن ذلك لا يعني أن رؤى البلدين تجاه القضايا الإقليمية، ومصالحهما في المنطقة باتت قاب قوسين أو أدنى من البعض.
تسكن في خلفية هذا التقارب النسبي، دوافع تخص كلا من البلدين، ليس جميعها مشترك مثل العامل الكردي في سوريا والعراق.
مربط الفرس، أن كلا من الدولتين يصبو من خلال هذا التقارب إلى التموضع في مستقبل التشكيلة الإقليمية، في ظل البازار السياسي المضطرب على ضوء التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة على أكثر من صعيد، بما يحقق لكل منهما مصالحهما المتباعدة، ورؤاهما المتباينة.
لا شك أن المسعى الثنائي لتجاوز الخلافات في هذه المرحلة، والتركيز على ما يجمعهما، ستكون له مردودات إيجابية على مجمل العلاقات، وتخلق مساحات للتعاون والتنسيق بينهما، في أكثر من صعيد، وعلى أكثر من ساحة.
مع ذلك، ثمة إشكاليات وعراقيل أساسية تحول دون تحقيق تقارب حقيقي بين إيران وتركيا، منها أولا: العلاقة الندية التاريخية بين القوتين الإقليميتين، لها إسقاطاتها الدائمة على طبيعة العلاقة بين الطرفين في مختلف الأزمنة والأمكنة، فإرث الماضي ما زال طاغيا وثقيلا على الحاضر، وتفاصيله إلى حد كبير.
ثانيا، في عهد العدالة والتنمية التركي، الذي تسعى تركيا إلى العودة لدورها الإقليمي التاريخي، حالة من انعدام الثقة تؤرق الجانبين دائما، بحيث تحضر لدى كل منهما في أفضل الظروف حسابات القلق والتخوف من الآخر، ومشروعه ودوره الإقليمي، ناهيكم عن أحلكها هذه الأيام.
ثالثا، الاتجاه الغربي للسياسة الخارجية التركية، وعضوية تركيا في الناتو كان ومازال يشكل مصدر ريبة وإزعاج للإيرانيين.
كما أن ذلك له مقتضيات ومتطلبات تحول دون أن تتعدى العلاقات الإيرانية التركية سقفا محددا، فما دامت العلاقات بين الغرب وإيران، لاسيما مع الولايات المتحدة الأمريكية محكومة بطابع سلبي وعدائي، فمن شأن أي تقارب حقيقي بين طهران وأنقرة أن يثير غضب حلفاء الأخيرة الغربيين.
ولا أظن أن ذلك ما تريده تركيا على المدى البعيد، حتى وإن اختلف اليوم نمط العلاقات التركية الغربية عما كان عليه سابقا.
رابعا، التبدلات التي شهدتها السياسة الخارجية التركية خلال الأعوام القريبة الماضية، وأحيانا بين ليلة وضحاها، لا شك أنها حاضرة في الحسابات الإيرانية.
بالرغم من أن في هذه التبدلات ما يسعد الإيرانيين خاصة في ما يتعلق بالتطور الذي طرأ على السياسة التركية في التعامل مع الشأن السوري، والتخلي عن مسألة ذهاب الرئيس بشار الأسد والقبول به، إلا أن طهران تتوجس من أن تصبح عرضة لاستغلال أنقرة، وورقة تشهرها الأخيرة في وجه الولايات المتحدة الأمريكية لدفعها نحو الاقتراب إلى الاهتمامات والهواجس التركية في المنطقة، خاصة في الشمال السوري.
هنا لدى طهران تخوف موضوعي من أن تكون جسرا لتركيا للوصول إلى مبتغاها، لذلك الريبة والتشكيك حاضرين بقوة في الحسابات الإيرانية.
جملة هذه العوامل تجعل من المبكر جدا الحديث عن وجهة العلاقات الإيرانية التركية نحو تقارب حقيقي وتحالف استراتيجي في هذا الوضع الإقليمي المضطرب.
أما المؤشرات الإيجابية الأخيرة، وعلى رأسها قدوم رئيس الأركان الإيرانية إلى تركيا، تحمل دلالات مهمة ومعتبرة، أهمها أن مساحات التعاون بين البلدين ستتوسع خلال المرحلة المقبلة، متجاوزة بعديها السياسي والاقتصادي إلى العسكري أيضا.
فلا شك أن إضافة البعد العسكري للعلاقات الثنائية في هذا التوقيت الإقليمي الحساس تعد تطورا مهما في مسار تقاربي باتت تسلكه البلدان منذ عام تقريبا، ولاسيما في الملف السوري، بعد مشاركة الدولتين الفاعلة في عملية أستانا وتمخضاتها.
لكن بالرغم من الإعلان التركي عن احتمال البدء بعمليات عسكرية مشتركة بين القوات الإيرانية والتركية ضد الإرهاب والمقصود هنا الأكراد تحديدا، يستبعد أن نشهد عمليات ميدانية مشتركة بين الجانبين خلال المرحلة القادمة، لأسباب موضوعية عدة.
أهمها أولا: الموقف الموحد للدولتين من طموحات الأكراد في أماكن تواجدهم في الدول الأربع ولاسيما في العراق وسوريا، لا يعني أن ما يقلق تركيا كرديا يقلق إيران بالضرورة أيضا وبنفس الدرجة، فعلى سبيل المثال، الحكم الكردي الذاتي في الشمال السوري بقدر ما يمثل مصدر قلق كبير لدى الأتراك بسبب التلاصق الجغرافي بين المناطق الكردية السورية والتركية، ليس الأمر هكذا بالنسبة للإيرانيين، فأولوية إيران في سوريا ليست أولوية تركيا.
بالتالي إيران ليست راغبة أن تنجر إلى ساحة القتال مع أكراد سوريا، بعد التخاذل الأمريكي لتركيا، فما توجد من أسباب مقلقة في هذا الجانب لدى تركيا ليس موجودة بالضرورة لدى إيران.
والحال أيضا بالنسبة لأكراد العراق حال أجروا الاستفتاء وقرروا الانفصال، حيث أن الموقف الموحد لإيران وتركيا حيال هذا الأمر لا يعني أنهما سيتبعان آلية موحدة في مواجهة ذلك بالرغم من التنسيق الكبير بينهما، إذ أن شحّ الخيارات لدى تركيا جعلها تلوح بالحرب، لكن إيران لها أدواتها العراقية التي تمنحها خيارات أوسع دون اللجوء إلى حرب مباشرة أو القيام بأعمال عسكرية دون مستوى الحرب.
ثانيا، أن معظم أحزاب المعارضة الكردية الإيرانية تخلت عن حمل السلاح في تسعينيات القرن الماضي، باستثناء أحزاب مثل "بيجاك" الذي يتخذ سلسلة جبال القنديل على الحدود العراقية، التركية الإيرانية مقرا له، فلا تقارن قدراته بحجم وقوة حزب العمال الكردستاني التركي، وهنا أيضا لا توجد أسباب موضوعية تدفع إيران للاشتراك مع تركيا في شن عمليات عسكرية ضد الأكراد على تلك الحدود.
ثالثا، القيام بعملية عسكرية مشتركة هو حاجة ومصلحة تركية بامتياز سواء ضد أكراد سوريا أو معارضيها الأكراد على الأراضي العراقية في ظل انعدام خيارات بديلة أخرى لديها، ولا شك أن الإيرانيين ينتبهون إلى ذلك، ويستبعد ذهابهم بهذا الاتجاه، ولعل جاء في هذا السياق نفي الحرس الإيراني وجود نية لديه للقيام بعمل عسكري مشترك مع تركيا خارج الحدود الإيرانية ردا على تصريحات تركية بهذا الشأن.
بالمجمل أن تركيا اليوم ترى نفسها محاصرة بالعامل الكردي، لكن إيران رغم قلقها وتخوفها من هذا العامل، لا تجد نفسها محاصرة به مثل تركيا.
لعل ما يهم إيران اليوم هو التجاوب سياسيا مع الهواجس التركية في هذا الشأن دون أن يمس ذلك بالاستراتيجية الإيرانية الخارجية، مقابل مزيد من تنازل تركي في ملفات إقليمية، وعلى رأسها الملف السوري.
فما حققته إيران من نفوذ إقليمي واسع ولاسيما في الدولتين سوريا والعراق الجارتين لتركيا، بفعل ثورية سياستها الخارجية، واستقلالية قرارها السياسي دون ارتباطها برغبات قوى دولية، أعطتها الحرية في اتخاذ ما تراه مناسبا وتنفيذ ذلك دون كلل وملل، فعلى سبيل المثال حينما قررت طهران وحدها الوقوف إلى جانب الحليف السوري على الأرض، لم تعير أي اهتمام لا لما كانت تسمى بمجموعة "أصدقاء الشعب السوري"، أو لتوقعات وشيكة بقرب سقوط النظام السوري.
ربما هذا هو سر ثبات السياسة الخارجية الإيرانية، فهي لم تغير رأيها منذ بدء الأزمة السورية حول ضرورة بقاء الرئيس بشار الأسد في منصبه، بينما العالم كله كان يطالب برحيله، إلى أنه ومنذ فترة اضطرت القوى الدولية والإقليمية بما فيها تركيا النزول عند هذه الرغبة الإيرانية.
هذه هي ميزة السياسة الإيرانية شئنا أم أبينا، وبغض النظر عن نتائجها، فهي حققت ما عجزت عن تحقيقه تركيا العضو في الناتو ومعها هذه المجموعة التي شكلتها قوى دولية وإقليمية، وذلك لسبب بسيط، أن عملية اتخاذ القرار التركي مرتبطة بتعقيدات التحالف مع الغرب والقوى الخارجية، مثل الناتو، لكن إيران متحررة من هذه القيود.
الخلاصة، أن زيارة اللواء باقري التي قد تقابل بزيارة مماثلة لنظيره التركي إلى طهران خلال الفترة المقبلة، ستضيف بعدا عسكريا إلى مجمل العلاقات الإيرانية التركية، لكنه بنطاق محدود، وعلى الأغلب سيختصر في مجال المعلومات والاستخبارات العسكرية، وربما التنسيق والتفاهم العسكري في مناطق جغرافية محددة، أدلب مثلا.
لكنني استبعد أن يرتقي هذا التعاون إلى عمل عسكري مشترك في ظل تصاعد القوة الإيرانية الضاربة في سوريا والعراق في الأوقات الراهنة، فلو عدنا إلى قبل عامين تقريبا، لكان احتمال تحقق ذلك أكبر بكثير من اليوم، حيث كانت الحاجة الإيرانية في تلك الأيام تماثل الحاجة التركية في هذه الأيام.