"رزق الله على هيديك الأيام التي كانت تفرغ فيها شوارع بيروت في أمسيات الخميس موعد خطاب السيد نصر الله لمعرفة محتواه كي "يبنى على الشيء مقتضاه" بلغة أهل السياسة اللبنانية.
لكن دوام الحال من المحال. الآن حتى بيوت الأسر الشيعية، التي لم يكن ممكناً فيها تفويت تلك الخطابات أو تناول الحزب أمامها بأي انتقاد، تدير ظهرها للخطاب وصاحبه. فتكرار الظهور صار مملاً وتخبط الخطب وتناقضاتها أو حتى توترها أحياناً كرصاص طائش منطلق عن كلاشينكوف "ملعلع روكب" زناده، صار غير مستحب.
هو يخطب والناس تكمل حياتها – التي لم تعد صالحة للعيش أصلاً- وصارت التعليقات تطاله كما تطال سائر خلق الله من طبقة السياسيين غير الإلهيين.
يبدو أنه آن أوان انهيار الكاريزما و معها الصورة "image de marquee" التي جهد الحزب وقائده في بنائها طيلة أعوام وأعوام بإشراف ودعم وتمويل وتخطيط المرجع الإلهي الأكبر -الولي الفقيه الخامنئي- ودولته العلية. وذلك لإظهاره ومحازبيه عنوان الشرف والعفاف ونظافة الكف والزهد بمتاع الدنيا وسلطتها: لا يبغي جاها أو مناصب أو حصصا. لكي تتكشف أوضاعه يوميا عن صورة طبق الأصل، أو أسوأ، عن أوضاع منظمة التحرير الفلسطينية في أواخر عهدها بلبنان. ذلك لا يعني أني أقدّر "أنه آيل إلى السقوط قريبا"، لكن العكس هو يمهد لعودة قوية إلى البلد لإمساكه من "خوانيقه" كما يقال.
ربما لتزامن هذه العودة مع تلاشي "الهالة" و"الهيبة" من كثرة ما تساقط عنها من أقنعة. فرواياته كمثل جرة يركب أذنها بحسب ما يريد تمريره مما قد يتسبب يكسرها لكثرة تبديلها.
ومع أن حال الإعلام تغيرت بل انقلبت رأسا على عقب وصارت الأخبار تصل مباشرة للمواطن، الذي يرغب، عبر الإنترنت ووسائطه بحيث يتسنى له معرفة حقيقة الخبر فيمتلك المعرفة والقدرة على مقارنة وجوجلة المعلومات؛ يصرّ نصر الله على استغباء المشاهدين بتنصله وإنكاره لما قاله، وكرره مهددا متوعدا بالصوت والصورة، وتحويره وقلبه وصولا إلى اتهام الآخرين بـ "الجهل" أو "انعدام الأخلاق". ولله الحمد أنه امتنع هذه المرة عن التكفير والتخوين!!
ربما يعتمد لتصديقه على الإيمان الإلهي لأتباعه بقدراته السحرية. لذا نجده يسهر على إثارتهم وإعادة شدّ عصبيتهم بالخطاب المذهبي المتعصب الذي يجدد عبره ولاءهم وتبعيتهم لغاية في نفس إيران وواليها الدمشقي. إنها مدرسة البروباغندا الروسية – الأسدية الكلاسيكية في أفظع أدوارها وأكثرها شراسة.
فإلام يسعى مرشد جمهورية الرئيس القوي؟
أعلن في خطابه عن 3 أهداف لحملة الجرود: إخراج داعش، كشف الجنود وتأمين الحدود.
لكن الأسئلة التي لا يستطيع الإجابة عنها بما يقنع هي:
لماذا لدينا داعش أصلاً ما دام أنه ذهب إلى سوريا لمحاربة التكفيريين ومنعهم من عبور الحدود اللبنانية؟ فيما تصمّ آذاننا بـ"لولانا" لوصلت داعش إلى جونية!!!
ومتى غيّرت داعش عقيدتها وصارت كالغنمة تستسلم طوعا!؟ ولماذا تأمن داعش على نفسها فتسلم للحزب وللنظام السوري؟ في سابقة غير معهودة؟ ولماذا تطمئن داعش لمرورها ووجودها في عرض سورية وطولها؟
ولماذا يا ترى يعتبر تأجيل محاربة العدو "المنهك والضعيف" انتصارا ما دام الهدف محاربته والقضاء عليه؟ ولماذا إبرام الاتفاق أصلا الذي صار حجة دامغة تبرر زعم: أن الاتفاق حصل، وديننا وأخلاقنا وقرآننا يقول أن نوفي العهد يعني لا نقدر ولا نطعن في الظهر ولا نحتال على احد"!! ومتى كان يوفي بالعهد؟ أفي عام 2006 أو في غزوة 2008 أو في انتخابات 2009 أو في قلب الحكومة في 2011 أو أي مناسبة أخرى؟
ولماذا استغلت عائلات الشهداء العسكر وتركت في وهم أمل لا أمل منه ولم يتم الإعلان أو الاعتراف في حينه عن مقتل الجنود الأسرى ؟ كما يشير مسؤولون رسميون إلى ذلك؟
ولماذا منعت الحكومة أصلا من التفاوض لإنقاذهم (ومن المفيد هنا مراجعة مقالة أسرار شبارو في النهار التي تشير إلى دور الحزب في منع الوصول إليهم، ومراجعة خطاب السيد نصر الله في 12\10\16 في تحريم التفاوض مع داعش في العراق، ومراجعة خطاب محمد رعد في السادس من أيلول 2014 حين قال حرفيا: "لن نخضع للمقايضة والمبادلة ونسقط كل ما لدينا من هيبة للدولة وللمؤسسة العسكرية".
وكان يريد حينها توريط الجيش في معركة لم تغطه فيها الحكومة التي كان يتحكم حزب الله – كالعادة- بمفاصلها. هذا إلى جانب أن الجيش لم يكن لديه بعد العتاد الخاص الذي أرسلته الولايات المتحدة بتمويل سعودي (وعادت فسحبته إثر الصفقة المشبوهة التي تركت الداعشيين يغادرون لبنان معززين مكرمين في باصات سياحية مكيفة "لأنهم كشفوا مكان دفن رفات الشهداء"! وكأن انهيارهم كان سيحول أمام هذا الكشف.
أليس في إبرام الصفقة على عجل خدعة لتعطيل وتجميد الانتصار الناجز الذي كاد أن يكون الجيش اللبناني الوحيد الذي حققه بهذه السرعة والكفاءة؟ هذا الجيش الذي صمّ الممانعون آذاننا بالتغني به وبالثالوث "المحرم" جيش وشعب ومقاومة؟ والذي صار بشحطة قلم معادلة رباعية: "جيش وشعب ومقاومة وجيش الأسد". بانتظار خماسية تدخل فيها ايران رسميا على المعادلة المتقلبة والتي لا ترسو على حال!!
هي صفقة مشبوهة مهما بذل من جهد لتمريرها أدانها الحليف العراقي كما أدانتها غارة التحالف الدولي التي أعلن لبنان انه جزء منه وعملية الجرود أيضا.
وهي صفقة تزيد من تعثر العهد القوي والرئيس القوي والدولة القوية وتفاقم وضع الحكومة الساهية.
أن المعركة هي لتسويق المعادلة الرباعية المقترحة – بعد زيارات "الوزراء" إلى دمشق- ولمساعدة الأسد على استعادة مجده الغابر في لبنان ولفرض إيران كشريكة، ولو مضاربة، في محاربة الإرهاب.
كما أن الصفقة عطلت ما جهد الجيش والحكومة على تأكيده في انه جيش نظامي خاضع لسلطة الدولة وقادر على اتخاذ القرارات وخوض المعارك والانتصار في المهام التي عجز عنها حزب الله والنظام للسوري في سوريا سواء لتحالفه الضمني ومصالحه المشتركة مع داعش أو في أحسن الأحوال لفشله في محاربتها.
لكن قبل هذا وذاك شكلت الاستفاقة الفجائية على محاربة داعش، التي جاورت الحزب آمنة مطمئنة ردحاً من الزمن، مناورة إيرانية هدفها إعلان هيمنتها على المنطقة التي تعتبرها سوريا المفيدة لتعوّض الانسحاب عن جبهة الجولان برضاها أو غصبا عنها. كما أنها محاولة تمهد لتهيئة حدود كانتون محتمل متجانس للمستقبل!!!
أما الاحتفال المقترح ليوم عرفة فهو نسف لفكرة الدولة القوية من أصلها هي ورئيسها وجيشها بتحويله الاحتفال الوطني إلى احتفال ديني -مذهبي- حسيني يسعى لتبرير حربه على الشعب السوري بزعمه تحقيق هدفه الأصلي وشعاره العتيد "زينب لن تسبى مرتين".