للشعب
الفلسطيني تجارب مع صناعة الأزمات، وكان آخرها تجربة المسجد الأقصى. وقد كان رأيي في العديد من وسائل الإعلام إن الشعب الفلسطيني يستطيع أن يحقق هدفه في مواجهة الصهاينة إذا استطاع صناعة أزمة تستقطب وسائل الإعلام ومن ثم الاهتمام العالمي. وذلك شريطة أن يبقى الشعب مصمما على حراكه وبقوة متصاعدة ليحشر عدوه في زاوية.
وهناك تجارب أخرى لم يتمكن الشعب من مواصلة الاندفاع فخابت آماله مثل انتفاضة عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000. وكان الفشل في الغالب بسبب مواقف القيادات الفلسطينية المساومة وليس بسبب فتور عزيمة الشعب.
بعد هذه السنوات الطويلة منذ عام 1917، المفروض أن الشعب الفلسطيني تعلم الاعتماد على نفسه خارج الإطار القيادي الرسمي دون أن يرد المساعدات الخارجية التي يمكن أن يقدمها الآخرون بدون شروط. أي من المفروض أن يكون التخطيط الشعبي دائما مستندا إلى مبدأ الاعتماد على الذات، وليس مرتبطا بمعونات خارجية. لا ضرر في تلقي المعونات الخارجية ، لكن كل الضرر يحصل إن ارتبط النضال الفلسطيني بما يقدمه الآخرون من مال ونصائح وتنديدات. الخير في سواعد أبناء الشعب، ولا مانع من مكاثرة هذا الخير بخير إضافي ليس أساسيا.
لكن المشكلة تبقى في أن المستوى الشعبي ليسى على مستوى تنظيمي أو حتى تكافلي كاف يدفع الناس تلقائيا للعمل معا. حتى الآن يتردد الناس كثيرا في المشاركة في مواجهة التحديات، وأغلبهم الآن لا يجدون دافعا داخليا يهز أركانهم ويلقي بهم في تجمعات بشرية تصر على تحقيق أهداف معينة. وحتى يتسنى ذلك، على القيادة أن تطور الوسائل والأساليب التي تنهض بالمجتمع جماعيا وتنمي لديه روح ونفسية الجماعة والعمل الجماعي. حتى الآن لم يحظ الشعب الفلسطيني بقيادة من هذا القبيل، بل على العكس، ابتلي الشعب الفلسطيني بقيادات تعمل دائما على شراء ذمم الأفراد من أجل إنجاز
التأييد السياسي لهذا الشخص أو ذاك. ولهذا من المطلوب أن تطور النخب الثقافية والأكاديمية قدرات شعبية على
التنظيم والحشد.
الأزمة تضع الطرف الآخر أمام مسؤولياته وتهزه أخلاقيا وسياسيا، وتحرجه أمام الرأي العام العالمي وتحرج كل من يساعده ويؤيده. وإذا تطورت الأزمة فإن وسائل الإعلام على مختلف مستوياتها لا تستطيع أن تهرب من التغطية لما في الأزمة من أحداث وأخبار مستجدة. وإذا تفاعلت وسائل الإعلام مع الأمر فإن الرأي العام العالمي والإقليمي سيتفاعل مع الأمر، وهذا بالتالي يحرك الحكومات ورؤساء الدول والمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة. إنما من المهم والضروري أن يكون صانع الأزمة على حق ومطالبه لا تخرج عن القيم الأخلاقية الكونية التي تعتمدها كل الشعوب والديانات. على صانع الأزمة ألا يتجنى على أي جهة أو دولة أو شخص، وإنما عليه أن يكون مقنعا في مطالبه وقادرا على استقطاب التأييد وجلب سوء السمعة للطرف الآخر.
تتطلب صناعة الأزمة معرفة مواطن ضعف الطرف الآخر، ومعرفة من أين تؤكل الكتف. على صانع الأزمة أن يمسك الطرف الآخر من اليد التي تؤلمه ليكون قادرا على رميه الأرض. وفي الحالة الفلسطينية هناك ما يكفي من التجارب ليعرف الفلسطينيون كيف يلقون بالصهاينة الأرض. فمثلا، الحجر أشد إيلاما للصهاينة من ألف سنة مفاوضات. الحجر يدفعهم إلى الاختباء، وإلى مراجعة أنفسهم مرارا قبل الخروج إلى طرقات وشوارع الضفة الغربية، بينما لم يتمكن المفاوضون الفلسطينيون من التنقل في شوارع الضفة الغربية بحرية. لدى الكيان الصهيوني الاستعداد للتفاوض ألف سنة دون أن يكل ولا يمل، ولكنه لا يتحمل حجرا، وسبق للحجارة أن فرضت منع التجول على المستوطنين في الضفة الغربية.
والكيان الصهيوني ضعيف جدا أمام أمنه الداخلي، وهو كيان قام أساسا على الأمن، وهو لن يكون مقنعا ليهود العالم إن لم يستطع توفير حياة آمنة لمهاجريه. والكيان الصهيوني يتألم إن خرجت القضية الفلسطينية من قفصها الفلسطيني إلى الساحة الدولية، وذلك لأن القرارات الدولية تعطي الفلسطينيين أكثر مما يطلبون.
تهديد الأنظمة العربية يؤلم الصهاينة أيضا. فإذا كان لدى الفلسطينيين ما يصنعون به أزمة للحكام العرب فإن الكيان الصهيوني يتألم وينحني. وجود الحكام العرب يشكل ضمانة استراتيجية لوجود الكيان الصهيوني، فإذا تعرض هؤلاء الحكام لخطر فإن الكيان سيصبح في خطر. ونحن نلاحظ كيف يتحالف الكيان مع حكومات عربية مهددة بالزوال، وكيف تتهافت هذه الحكومات نحو إقامة علاقات طيبة معه.
هناك مصالح أمنية مشتركة يؤدي تهديدها إلى كسر رقبة الكيان. لكن يجب على صانع الأزمة الآ يدفع بالأمور إلى حافة يصاب فيها هو بالأذى. قد تؤدي الأزمة إلى الحرب، وعلى صانع الأزمة أن يسأل نفسه بداية حول قدراته، وحول نقطة قدرته على الصمود. فإن لم تتوفر لديه الإمكانية فإن عليه ان يختار طريق المهادنة والصبر، وإذا وثق بقدراته فإن عليه ألا يتردد في المواجهة. الأذى حاصل في كل الأحوال، وتبقى إمكانية التحمل هي الحاسمة في الأمر.