السعودية والقضية الفلسطينية.. مقدمة في المشكلة!

(1)
صورة محمد مرسي الرئيس المصري السابق، أو أي من قيادات حماس، إلى جانب شخصية إيرانية كبيرة؛ كافية لإدانة ذلك الطرف العربي أو الفلسطيني. هكذا هو الأمر بالنسبة للجمهور السعودي المؤيّد لحكومته في مواقع التواصل الاجتماعي، سواء كان تأييده طبيعيًّا، أم جزءًا من وظيفته في اللجان الإلكترونية.

في المقابل يَرُدُّ مخالفوهم بصورة للملك السعودي الراحل عبد الله بصحبة الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد، وسوف يُضاف إلى أدوات الردّ الصور الأخيرة برفقة شخصيات عراقية موالية لإيران أو منخرطة بشكل أو بآخر في السياسة الإيرانية، كرئيس الوزراء العراقي حيدر العبّادي، أو مقتدى الصدر.

صحيح أن هذا النقاش مبتذل، ولكنه وافر الدلالة على جانب مهم من مشكلة السياسة السعودية إزاء المنطقة، ولاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وقبل الإكمال مع هذا الاستهلال المبني على مناقشة الصور المبتذلة في شكلها والثريّة في دلالتها، لا بدّ من تسجيل مقدّمات مهمّة تُراعى فيها الاعتبارات السعودية.

(2)
ثمّة سجال شائع يستخدم تعبيرات من قبيل، "عرب الجزيرة"، و"عرب الشمال"، ويُقصد في هذا السجال بعرب الجزيرة الخليجيون بالدرجة الأولى، وبعرب الشمال الشاميّون والعراقيّون، ويمكن أن يُضاف إليهم المصريّون. هذا التفريق كثيرًا ما يستند إلى التصورات النمطية المتبادلة بين "العَرَبَيْن"، وهي التصورات التي تفضي في النتيجة إلى الرغبة في حمل كل طرف من "العَرَبَين" الآخر على أفكاره وأولياته.

يتّسم الشماليّون بحساسية شديدة تجاه الاستعمار، وامتداداته الإمبرياليّة الراهنة، ولعلّ هذا يصدق أيضًا على سكان بلاد شمال إفريقيا والمغرب العربي، نتيجة جملة من الاعتبارات، منها طبيعة الصدام بالاستعمار، وغلبة الخطاب القومي واليساري في حقبة قريبة، ثم ظروف نشأة الحركة الإسلامية.

على النقيض من ذلك، لا يحمل الخليجيون الحساسية نفسها، ولم يكن صدامهم بالاستعمار بالطبيعة التي عرفها الشماليّون، وغالبًا، لم تستند السياسات الخليجية إلى رؤى كبرى، كتلك التي تظللت بها سياسات الشماليين، الذين حكمتهم الخطابات القومية واليسارية، واصطدموا في ظلّ تلك الخطابات بالحكومات الخليجية، كما كان الأمر، على الأقل، في الحقبة الناصرية.

لقد تركت حقبة المدّ القومي واليساري بمفرداتها ومصطلحاتها وخطاباتها، من قبيل تقسيم الحكومات العربية إلى تقدّمية ثورية ورجعية محافظة، آثارها الممتدة في الوعي العربي العامّ، وربما ظلّ الإسلاميون وحدهم من الشماليين، الأقل من بين القوى العربية الحزبية والحركية حدّة في انطباعاتهم عن الخليجيين، أو في موقفهم من الأنظمة الخليجية، دون أن تكون مواقفهم في نسق واحد منسجم، فقد توترت مواقفهم ما بين النقد والقبول لطبائع وسياسات الحكومات الخليجية، لأسباب يضيق المقام عن بسطها الآن.

وفي السياق نفسه، يمكن ملاحظة أولويتين تحكمان السياسات الخليجيّة، تندرجان في مبدأ واحد، وهو الخوف من القوى الكبرى المحاذية، لا من "إسرائيل"، وبناء السياسات على ذلك، إذ ثمّة خوف خليجيّ مزمن من القوى الجارة الأخرى، وتحديدًا إيران الآن، وثمّة توجس دائم بينيّ يحكم السياسات الخليجية إزاء بعضها، فسياسات الدول الخليجية الصغيرة التي بدت طموحة وتفوق حجمها، لا تستند في الحقيقة إلى رؤى كبرى، قومية أو يسارية أو إسلامية، وإنما إلى الرغبة في التمايز عن الجار الخليجي الكبير، أي السعودية، والتحصن من قدرة السعودية على الوصاية والهيمنة أو الابتلاع.

لكن هذا لا يعني أن دول الخليج لم تكن مهمومة بالقضية الفلسطينية، ونحن في غنى عن استدعاء البلاد الخليجية التي تأسست فيها أكبر فصائل الحركة الوطنية المعاصرة، فتح وحماس، وعن الدعم الماليّ السخيّ الذي حظيت به منظّمة التحرير، وعن الفسحة التي أتيحت لبعض هذه القوى داخل الأوساط الشعبية الخليجية.

(3)
تراجع الموقف الخليجي من القضية الفلسطينية محكومًا بجملة من الظروف والحوادث والاعتبارات، منها تقادم القضية الفلسطينية، والأولويات الخليجية الخاصّة، مثل خلافاتها البينية، وصراعاتها مع العراق وإيران، وحرب الخليج، وتوقيع اتفاقية أوسلو، وأحداث 11 سبتمبر، والعلاقة العضوية التي تربطها بأميركا، وصراعات الحكم الداخلية.. الخ..

في السنوات العشر الأخيرة، بدأت دول الخليج، ومنها السعودية، تُظهر سياسات تتغافل عن القضية الفلسطينية إلى حدّ يقارب التنكّر، وبالرغم من استمرار دعمها للسلطة الفلسطينية، ودعم قطر لحماس، فإن السعودية والإمارات قد تغافلتا تمامًا عن العدوان الصهيوني على غزة في العام 2008، على خلاف موقفهما في مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000، وقد استمرّ هذا الانحدار في حربيّ 2012، و2014.

في حرب 2008 كان التنكر الإعلامي في إعلام البلدين الرسمي كاملاً، مع اقتراب ما من الرواية الصهيونية في قنواتهما الإخبارية وصحفهما الدولية، إلى درجة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية كانت تحتفي ببعض كتاب ورموز الإعلام المموّل سعوديًّا وإماراتيًّا، وغير خافٍ أن قناة العربية قد حظيت من دون كل المؤسسات الإعلامية العربية بلقب "العبرية".

على الأرجح كان لأحداث 11 سبتمبر دور كبير في ذلك، وهو الدور الذي صاغ مبادرة السعودية للسلام والتطبيع مع "إسرائيل"، وتنكّرها، هي والإمارات، للحصار المضروب على عرفات، ولعل انهيار اتفاقية مكّة بين فتح وحماس؛ كان القشّة التي قصمت ظهر البعير السعودي في موقفه من القضية الفلسطينية.

طوال هذه السنوات العشر الماضية أخذ التنكّر ينحى منحى سلبيًّا، ظهر في إفراز طبقة إعلامية تشتغل في منابر ضخمة وهائلة التمويل، وتتبنى الرواية الصهيونية. هذه الطبقة التي توصف في الأوساط العربية الشعبية بـ "المتصهينة" تحظى بالحماية والرعاية من الأنظمة الحاكمة، مما يجعلها في الحقيقة تُعبّر عن سياسات تلك الأنظمة.

هذا المنحى السلبي، الذي تحوّل من التنكّر للقضية بالتغافل عنها إلى محاولة طمسها، ظهر بدعم الإمارات لمحمد دحلان، ودعم الإمارات والسعودية لمصر، في حقبتي مبارك والسيسي في حصارها لغزة، وأخيرًا في انخراط كليهما في جهود تطبيع سرّية، أخذت أشكالاً علنيّة من قبيل زيارة الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي لـ "إسرائيل"، ومن نافلة القول إن السعودية ليست سويسرا، وإن من يعاقب المتعاطف مع قطر ولا يعاقب المطبّع مع "إسرائيل" هو بالضرورة المحرّك لذلك التطبيع.

(4)
في العدوان الأخير على المسجد الأقصى، اتسم الموقف السعودي بالصمت، بينما امتنع العلماء والمشايخ السعوديون عن التعبير عن أي موقف، سوى دعاء عابر خجول من بعضهم، بينما انصبّ جهد أنصار الحكومة السعودية على مواقع التواصل الاجتماعي؛ في الهجوم على الفلسطينيين واتهامهم ببيع أرضهم لليهود، وإدانة حماس بعلاقتها بإيران، وفي ذلك كلّه اتسم هذا الأداء الموجّه بالمناكفة واللعب على وتر التناقضات، وحشر قضايا وخلافات لا علاقة جوهرية لها بالعدوان على المسجد الأقصى.

فجأة؛ وبعدما تبين أن صمود المقدسيين فاق حسابات نتنياهو، وأن احتمالات اتساع الأحداث قد تطيح بكل الجهود التطبيعية والمخططات الإقليمية الجارية، نسب السعوديون إلى الملك سلمان إنجاز كسر إرادة نتنياهو وفتح بوابات المسجد الأقصى وإزالة الإجراءات العدوانية الصهيونية الأخيرة على المسجد، وهو الأمر الذي استفزّ المرابطين حول أسوار المسجد الأقصى.

(5)
المشكلة السعودية في ذلك كلّه أنها وإذ تطالب العرب والفلسطينيين بالعمل وفق أولياتها، كتقديم العداء السعودي لإيران على أي أولوية أخرى، لا تراعي أن الفلسطيني بدوره، والذي يزيد عمر قضيته على 100 عام يتمركز حول قضيته، ويرى العالم من خلالها.

إن التصور السعودي هنا لا يفتقر للاتزان فحسب، ولكنه فوق ذلك مفرط في استعلائه وأنانيته، إذ يطالب الآخرين بأن يندرجوا في سياسته المعادية لإيران دون أن يقدّم بديلاً لهؤلاء الآخرين يليق بقضيتهم ويرقى إلى حجمها ويناسب تطلعاتهم، كدعمهم بالمال والسلاح والتدريب في مواجهة العدو الصهيوني، واستخدام النفوذ دوليًّا لصالح القضية الفلسطينية، حتى وإن كان أقلّ في قوّته ممّا استخدم ضدّ قطر!

بل وأكثر من ذلك، فالسعودية تتخذ من علاقات الآخرين بإيران مدخلاً للإدانة، على أساس أولوياتها طبعًا، حتى لو كانت محض دبلوماسية اعتيادية، كما في حالة محمد مرسي والإخوان المسلمين مثلاً.

فبينما يُعيّر الآخرون بعلاقاتهم بإيران، تمنح السعودية نفسها الحقّ في دعم قوى شيعية، لا يمكن جرّها بعيدًا عن إيران كثيرًا، مثل مقتدى الصدر، وفي الوقت نفسه تُهاجَم حماس لأنها تتلقى دعمًا من إيران، وأكثر من ذلك تُستخدم الدعاية الدينية لاتهام حماس في معتقداتها الدينية وللتشكيك بانتمائها السنّي، في حين تدعم السعودية تلك القوى الشيعية!

كلمة أخيرة، تحاول السعودية اليوم أن تخرج من الثوب المحافظ، لتتصدر قيادة العالم العربي، وهي بذلك تحاول فرض أولوياتها على العرب، لكن شروط القيادة والصدارة لها أثمان تُدفع، وليست أخذًا فحسب، ولعل الملك فيصل قد تنبّه لذلك؛ وأدرك أن الصدارة الإقليمية وفرض الأولويات السعودية، لا يمكن أن تكون على حساب الأولوية الفلسطينية، أو عن طريق تطبيع الوجود الصهيوني في المنطقة!