أهم أداة إعلامية في عصرنا الراهن هي التلفزيون، ولا أحد يعرف عدد القنوات الفضائية العربية، فقد تكاثرت بحيث صار من العسير إنشاء فضائية جديدة، لأن الموجود منها استهلك كل الأسماء "اللائقة وغير اللائقة"، ويكمن مصابنا الأليم، في أن الواحد منا صار يبسمل ويحوقل قبل أن "يفتح" التلفزيون، خشية أن تلتقط العين والأذن مشهدا أو عبارة جارحة للحياء
تفتح التلفزيون وأنت تقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، وتغلقه وأن تهمهم: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، وحتى قبل عشر سنوات كان الإعلاميون يمارسون الشتم فقط بحق القيادات السياسية، ولكن بمفردات من شاكلة: رجعي/ عميل/ خائن/ ديكتاتور، ثم صرنا نسمع سبابا من نوع أولاد ال*****، ومقدم برامج يخلع حذاءه ويلوح به أمام الكاميرا، متوعدا هذا الشعب أو ذاك بـ"الضرب بالجزمة".
من المتعارف عليه إعلاميا في كل القارات، أن دم الشخصيات العامة مباح، بمعنى أن قدحهم وشتمهم جائز بل ومستحب إذا كان هناك ما يستوجب ذلك، ولكن دون وقوع الشاتم والقادح تحت طائلة قوانين القذف والتشهير وإشانة السمعة، فقناة فوكس الأمريكية – مثلا – وهي نموذج كلاسيكي للتهريج السياسي، وموالية للحزب الجمهوري وغلاة المحافظين، لا تتقيد بضوابط التحرير الصحفي، ولا تتقصى دقة وصحة ما يأتي به مراسلوها وصحفيوها، وكانت تعتبر كل قرار يصدره الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما "جريمة في حق الوطن"، ولكنها لم تنزلق إلى مهاوي السباب الشخصي اللفظي الرخيص.
في قنوات التلفزة المحترمة وشبه المحترمة، تتعرض النُّخب في جميع المجالات، لسيول من الانتقادات المُرّة ولكن غير الجارحة، ومنذ أن آلت مقاليد الأمور في واشنطن إلى دونالد ترامب، ومعظم وسائل الإعلام الأمريكية تبدي عداء سافرا نحوه، وترصد زلات لسانه وخطل قراراته، ولكنها لا تصفه – مثلا – بأنه غبي، بل تحترم ذكاء المشاهد، ليستنتج أنه غبي وذو لسان فالت، يقول كلاما ثم يفكر في ما قاله لاحقا، وبالتالي كثيرا ما اضطر لـ"لحس" كلامه.
وبالمقابل، فإن السنوات الأخيرة، شهدت تحول عدد من قنوات التلفزة العربية إلى منابر للردح الممعن في البذاءة والفجور، ولا تقوم تلك القنوات بتوجيه مدفعيتها نحو القادة السياسيين وحدهم، بل تقصف شعوبا بأكملها وتصمها بالهبل والخبل والتخلف العقلي، ولو رجعت إلى أرشيفها لوجدت فيه أن تلك الشعوب كانت حتى وقت قريب "شقيقة تربطنا بها أواصر الدم واللغة والعقيدة".
والأدهى والأنكى من كل ذلك، أن مقدمي البرامج التلفزيونية، الذين مرجعيتهم بواليع ومجارير اللغة السوقية، كثيرا ما ينقلبون على بعضهم البعض، وعندها تهبط لغة السباب إلى العورات، وعورات الأمهات على وجه التحديد، ويجعلني ذلك أستحضر الحديث الشريف الذي نهى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن سب آبائهم وأمهاتهم، فسألوه متعجبين: وكيف يسب الإنسان والديه؟ فأوضح لهم أن شخصا ما قد يسب أبا وأم شخص آخر، فيرد عليه بسب أبيه وأمه.
على مدى قرون من تاريخ العرب والمسلمين، كان الشاعر هو "ضابط الإعلام والعلاقات العامة"، المكلف بتعداد مناقب القبيلة أو السلطان، وهجاء الخصوم من القبائل الأخرى أو معارضي صاحب السلطة، ولكن حتى في العصر الجاهلي، ومهما أقذع الشاعر في الهجاء، فإنه كان شديد الحرص على عدم الخروج على ضوابط الأدب المتعارف عليها في عموم جزيرة العرب، فلا تجد في شعر ذلك العصر ما يقابل كلمات "معاصرة" مثل: معفِّن وتافه وداعر وفاجر وحقير.
وحتى الهجاء المتبادل بين جرير والفرزدق (النقائض)، كان أقرب للمداعبة الإخوانية أكثر منه سبابا، وعلى مدى نحو 15 قرنا ظل قول الشاعر: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم/ قالوا لأمهم بولي على النار/ وتمسك البول شحا أن تجود به/ ولا تبول لهم إلا بمقدار.. ظل يتردد حتى على ألسنة الأميين.
ورغم أننا قوم نستنكف الحديث عن البول إلا في ما يتعلق بالأمور الصحية، إلا أن الملايين منا قرأوا هذين البيتين وابتسموا لعنصري الطرافة والبلاغة فائقة البراعة فيهما، ثم حرك الشريط بسرعة فائقة إلى القرن العشرين، واسمع الشاعر الرقيق إبراهيم ناجي يقول في صديقه عبد الحميد: يا عبقريا في شناعته/ ولدتك أمك وهي معتذرة. هذا كلام مقذع ولكن جلدك لن يقشعر لسماعه، بل ستبتسم، بل قد تنفجر ضاحكا.
وعلى إجماع العرب على أن حواء العربية لم تنجب قط شاعرا في قامة أبي الطيب المتنبي، إلا أن قيام ضبة، الذي كان معروفا بأنه ابن سفاح بقتله، لم يثر دهشة ولا غضبا من محبي الشاعر، لأنه حط من قدر نفسه بهجاء ضبة: ما أنصف القوم ضبة / وأمه الطرطبة، لأنه كان هجاء فاحشا قذرا ومبتذلا، لا يليق بمن نظر الأعمى إلى أدبه وأسمعت كلماته من به صمم.
ولولا خوف اتهامي بأنني تكفيري من نوع جديد، وأن يسبغ عليّ البعض اسم "جعفر قطب"، لقلت إن أداء بعض شخوص الإعلام العربي، يمثل جاهلية القرن الحادي والعشرين، رغم أنني أعني بالجاهلية هنا الجهل بقواعد الأدب والأخلاق، أو تجاهلها، ومجافاة مقتضيات التهذيب.