«الرئيس السوري عدوّ شعبه لا عدوّ فرنسا»، هذه القولة لم ينطق بها لا ميلانشون (القريب من الصين وروسيا وآل الأسد)، ولا مارين لوبن التي ذكرت بعض الصحف والمجلات الفرنسية أنّ علاقة سياسية و «اقتصادية» تربطها بالأسد وببوتين من دون أن ننسى موقف المرشح الفاشل فيون بأنّه «يريد أن يعيد السفارة الفرنسية إلى سوريا في عصمة بشار!». الموقف المشرف المعني هو ما اتّخذه ومارسَه الرئيس السابق فرنسوا هولاند: عندما قطع علاقات بلده بنظام الأسد وطالب بمحاكمته كـ«مجرم حرب» (أوَليس محتملا أن موقف هولاند من الرئيس السوري يوحي كثيرا بالتفجيرات الإرهابية التي أصابت فرنسا!؟).
إزاء هذه المطالعات، كنّا ننتظر أن يكون موقف الرئيس «الطازج» من الأزمة السورية مختلفا عن هؤلاء الشعبويين والانعزاليين الذين نافسوه في السباق الانتخابي، الرئاسي - والتشريعي.
أثلج قلوبنا تصريح ماكرون أثناء زيارته «الانتخابية» بيروت عندما صرّح للزميلة «لوريان لوجور» بأنّ بشار «مجرم وقاتل شعبه وعليه أن يدفع الثمن ويُحاكم». برافو!
إنّه مدخل سياسي نبيل افتتحه المرشح الرئاسي، وكنّا من بين الذين يتمنّون أن يفوز بالانتخابات، لا لهذا الموقف فحسب، بل لأنّ هذا الموقف المهم يصدر من اقتناعاته السياسية والأخلاقية والثقافية! أي من الموقف المتصل بالتنوير، وبالثورة الفرنسية، وبمساهماته الفلسفية كمساعد للفيلسوف «الإنسانوي» الكبير بول ريكور.
التواطؤ
هذا ما انتظرنا أن تستوحيه: فما الفارق يا حضرة الرئيس بين موقف «المتعاملين» مع النازيّة، وبين مواقف بعضهم في التواطؤ مع آل الأسد ضدّ الشعب السوري. تقول «الأسد عدوّ شعبه وليس عدوّ فرنسا!». هذه المقولة تصب في انعزاليّة مخيفة، تفصل الشعب الفرنسي عن العالم. بل هي نظرية سياسية قاصرة.. لكن كأنّ الرئيس ماكرون نسي مآثر النظام الأسدي ضد «الفرنسيين»: أوَلم يقتل في السابق السفير دولامار؟ ألَم يقم بالاتفاق مع إيران بتفجير السفارة الأميركية في بيروت، وكذلك بتفجير مقر القوّة العسكرية في لبنان؟ وأودّ أن أذكّر ماكرون: إذا كان الرئيس هولاند اتّخذ موقفا مشرفا بإدانته جرائم الأسد ومقاطعته... فهل تستبعد الأصابع السورية - الإيرانية من تفجيرات باريس ونيس بمسميات داعشيّة أو سواها؟ وهل تستبعد أصابع مجرمة مماثلة أسدية من تفجيرات لندن، (موقف بريطانيا كموقف هولاند). وهل تظن أن الإرهاب مجرّد عمل «مجاني»، ولا تحركه آلة سياسية محددة في طهران ودمشق (هل تتذكّر كيف سلّم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المعروف بولائه المطلق لإيران، الموصل لـ«داعش» عندما أمر جيشه بالانسحاب؟ هل تتذكر كم مرّة جرى تسليم النظام السوري تدمر لـ«داعش» ثمّ تبادلا التسلّم والتسليم مرات عدة؟ هل قرأت أو سمعت أنّ الأسد قصف بالكيماوي أو بالبراميل المتفجّرة «داعش»؟ هل تتذكّر أنّ بوتين الذي غزا سوريا بحجّة محاربة الإرهاب و«داعش»، دشّن هجومه الجوي بقصف الجيش الحر؟
الثقة
هذا يهزّ الثقة بماكرون الذي يتلمّس عهده الجديد، ويشكّك بصدقيّته؛ أوَليس هذا ما حصل مع أوباما الذي انحاز إلى إيران التي تحتل أجزاء من أربعة بلدان عربية (يضاف إليها الجزر الثلاث)، واتّخذ مواقف رجراجة، وغير مفهومة، وسلبية من الأزمة السورية؟
نتذكّر أوباما عندما ضرب الأسد شعبه بالكيميائي، وكيف أنّ الرئيس الأميركي هدّده بأن استخدام الكيماوي خط أحمر و«إذا فعل سيكون لنا رد فعل عسكري». قالها، وانتظر: لكنّ الأسد امتحنه وجدّد قصفه بالكيميائي، لحسَ أوباما «تهديده» وانكفأ: وكانت هذه إشارة إلى بوتين والأسد وإيران لاستباحة ما لا يُستباح، من قتل ومجازر وبراميل متفجرة وقنابل عنقودية... واجتياح مناطق وتهجير الملايين. إنها صدمة رئيس أدى تردّده إلى ضعف دور أميركا في الشرق الأوسط والعالم.
فهل يتكرّر الأمر مع ماكرون وبريطانيا وأميركا برئاسة ترامب؟ نتساءل: فقد تمَّ اكتشاف برنامج كيميائي في أحد المطارات العسكرية في سوريا: وكان ماكرون أول الصارخين: على الأسد أن يدمّر هذا المُنشأ، أو سيلقى عقابا عسكريا من فرنسا. وتصديقا لقوله اتصل بالرئيس الأميركي، واتخذا موقفا مشتركا من الأسد، انضمّت إليه بريطانيا.
السؤال لا يتمثل فقط في قيام فرنسا أو عدم قيامها برد فعل عسكري على قوات الأسد في حال استخدام هذا السلاح المحرّم دوليا من جديد، بل أيضا في جمع موقفين متناقضين متتابعين: فإذا كان ماكرون ما زال يعتبر أنّ «الأسد عدوّ شعبه وليس عدوّ فرنسا»، فكيف يبرّر موقفه الجديد. كيف ينأى بنفسه عن اتخاذ موقف من الأسد (باعتبار أن المسألة داخلية!)، وكيف ينخرط في احتمال هجوم على قوات مجرم الحرب؟ أيهما نصدّق الموقف الأوّل أم الثاني: الأوّل الذي يسعى ربما به إلى النجاح حيث لم ينجح نظراؤه من الرؤساء: هولاند، ساركوزي... وشيراك في لعبة الديبلوماسية، وإفساح دور سياسي لفرنسا في هذه الأزمة السورية وسواها؟ أيكون موقفه الأوّل «ديبلوماسيا سياسيا»، والثاني متصلا بحقوق الإنسان؟ في الأوّل يريد أن ينضمّ إلى اللاعبين «الكبار» على امتداد سوريا: بوتين، خامنئي... لاستعادة شيء من دور فرنسا الضعيف؟ والثاني كأنّه استجابة لمفاهيمه الأخلاقية والمدنية؟ في الأول انزوائيّة، وفي الثاني جسارة «عالمية»؟
صحيح أنّ موقفه الأول من الأسد أقلق كثيرين من مؤيّديه في فرنسا والعالم، لكن هل أثلج موقفه الثاني قلوب القلقين؟ تعادلية غريبة في مزج الماء والزيت. لأنه استدعى ما يعتبر عثرة كبيرة في تدرجاته الأولى: إن إعادة فتح سفارة فرنسية في دمشق تؤخذ كاعتراف بشرعية الأسد، الذي فقدها منذ أول تظاهرة شعبية - سلمية - وطنية في درعا، وتوالى سقوط ظلاله على الحكم والسيادة والاستقلال، وخيّم شبح مجرم، هجّر ملايين من «شعبه» إلى جهات العالم، وهم مَن أسماهم بعض السياسيين الفرنسيين والمجريين والسلوفاكيين والبولنديين «الغزاة الإسلام» لأوروبا، الذين يهدّدون هويّاتها «المقدّسة»، المسيحيّة أو الفكريّة أو «طرق معيشتها». من هؤلاء الذين زار ماكرون مسقط رأسهم في الجزائر ولبنان... وهؤلاء الذين فاضت جثثهم على البحار في رحلات هروبهم من الموت على أيدي الأسد وروسيا وإيران. أين هو الشعب السوري اليوم الذي يتكلم عنه ماكرون، وأين سيادة رئيس جمهوريتهم؛ أكان يفعل الأمر ذاته مع صرب البوسنة الذين هجروا المسلمين من أرضهم وارتكبوا مجازر (8000 ضحية على امتداد أسابيع).
ما الفارق بين سفّاحي صرب البوسنة وبين بشار الأسد؟ مجرمو حرب يلتقون مجرما فاقهم إجراما. ومع هذا يقول إن الأسد «هو عدوّ شعبه وليس عدوّ فرنسا». يا للحيلة «البلاغية» التي تضع هذا الرئيس «المأمول» إلى جانب الجزّارين كبوتين وخامنئي (والمتواطئ أوباما)، المشاركين في تدمير سوريا، واحتلال جزء من أراضيها (بطريقة شرعنها بشار كخائن لبلده): أوَليس هذا ما فعله الجنرال «بيتان» أيام الغزو النازي لفرنسا؟.
العقل النفعي
وإذا كان الأسد (وحلفاؤه) أعداء الشعب السوري، أَينضم إليهم ماكرون بعقليّة «سياسي» نفعي وقديم ادّعى أنّه تجاوزها إلى النُّخب و«الجمهور» الشبابي. لكن، نتذكر، أنّ موقف ماكرون لا يختلف كثيرا عن مواقف النخب في منتصفات القرن العشرين، عندما تماهى كبار الفلاسفة والشعراء والكتّاب والفنانين بستالين، وحبروا به مقالات التمجيد، وقصائد المديح، كمنقذ من «الرأسمالية» الأميركية، لينحاز بعضهم، إلى مجرم ولا كالمجرمين هو ماو تسي تونغ، فزاره بعضهم في بكين ليقدّم ولاءه وهو في عزّ ثورته الثقافية وما قبلها، والتي أدّت إلى سقوط الملايين على أيدي جيشه، لا سيما الكتّاب والمعلمين والمعارضين والفنانين، تحت مسمّيات «أعداء الشعب»، والموقف ذاته اتّخذه بعض هؤلاء النخب لتأييد بول بوت (الخمير الحمر)، الذي أطاح مليوني مواطن من مواطنيه، متماهيا بثورة ماو تسي تونغ. أهوَ تقليد عند هؤلاء النخب الفرنسيين بالانحياز إلى الطغاة وقتلة شعوبهم، وناشري سياسة الخوف في العالم؟
أترى انضمّ ماكرون إلى هؤلاء بمدّ يده إلى الأسد؟
خيانة
إذا كان الأمر على مثل هذا المنوال، فيعني أنّ الرئيس الفرنسي الجديد قد خان كل ما ادّعى تمثيله من قيَم، بل ومحا في آن واحد «استثناءه»، و«الاستثناء الفرنسي». وعندها سيكون موقفه السيئ هذا نقطة سوداء، من الصعب إزالتها.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، نرى أنّه إذا كان تهديده الأسد بتدخّل عسكري فرنسي رادع، في حال نفّذ برنامجه «الكيميائي» في شعبه، موقفا «استدراكيا»، يعوض فيه عن فداحة اعترافه الدولي بالمجرم السوري... فقد يكون ذلك، إشارة إيجابية لتأكيد موقعه المؤيد للشعب السوري، بنزع شرعية الأسد «المفقودة» أصلا!
مع هذا: ما زلنا، نأمل في أن يكون ماكرون على الصورة التي قدّمها لنفسه... في حملته الانتخابية، وعلى انسجامه مع «شعاراته»، بمحاربة الإرهاب (والأسد أشرّهم)، وبدعم الشعوب المقهورة. إذ كيف يمكن أن نصدّق ولو كلمة عن محاربة الإرهاب، وهو يهادن أكبر إرهابي في القرن الحادي والعشرين.
المستقبل اللبنانية