قبل عامين، طَلب إليَّ المكتبُ الثقافيُّ المصريُّ بالرياض المساهمةَ بمقدمةٍ تحليلية أُلقيها قبل عرض فيلم «الأرض» في إطار مشاركةٍ مصرية في الاحتفال السنوي باليوم العالمي للفرانكفونية.
وقد كانت أمسيةً ثقافية ناضجة استمتع خلالها المشاهدون ــ مصريين وعربا وأجانب ــ بهذه الملحمة السينمائية المصرية الخالدة. أتذكر اليوم تلك الليلة الباعثة على الزهو الوطني في سياق المشهد الحالي فتباغتني الدهشة من مبلغ التغير السريع الذى شهدناه ما بين أيامنا هذه والأمس القريب.
***
تحدثتُ قبل إظلام القاعة ورَفْع الستار وظهور كلمة «الأرض» مضرجةً باللون الأحمر على خلفية النخيل الباسق الهارب، وهدير صوت المجموعة منشدا لحن على إسماعيل الشجي.
تحدثتُ في معنى الملحمة وتعريفها وأثرها في التكوين النفسي للجماعة الوطنية. قلتُ إن الملحمةَ قصيدةٌ شعرية طويلة، تزخرُ بالأحداث الجسام، وتقصُّ حكايةً بطوليةً خارقة عن أحد النماذجٍ الإنسانية التي يُحتذى بها لنبلها وشجاعتها، ويموج من حولها شعبٌ تتنازعه خصالُ الملائكةِ وأهواءُ الشياطين.
فما إن استقرت الملحمةُ في الوجدان الجمعي لأمة حتى بات عسيرا فصلها عن ملامحها من دون عنفٍ أو تشويه. مضيتُ أتحدث عن ملحمة قرية مصرية في ثلاثينيات القرن الماضي، بطلُها فلاحٌ مصريٌ جليل، هو العم محمد أبو سويلم، الذى ناضل للحفاظِ على أرضه حتى الرمقِ الأخير، وثار ضد تغولِ الإقطاع وبطش النظام وانتزاع الأرض.
تحدثتُ عن ناظمِ هذه القصيدة السينمائية المصرية المدهشة، عن الساحر الماكر يوسف شاهين، الذى ما إن يُذكر الفن السابع المصري، حتى يقفز من وراء أول أبواب الذاكرة مشاغبا مشاكسا مبارزا بلغته السينمائية المتحدية بلادة الواقع وسلاطة أكاذيب السرديات الرسمية. ذكرتُ فيما ذكرتُ ما لأفلامٍ مثل «عودة الابن الضال»، و «العصفور»، و «الناصر صلاح الدين» من مكانة في نسيج الضمير المصري، وإن كانت لم تصل بنفس القدر إلى التغلغل في مسام الشخصية المصرية بمثل ما فعل فيلم «الأرض» وبطله الهمام العم أبو سويلم.
في تلك الأمسية، توقفتُ طويلا أمام الترجمة البصرية «الشاهينية» لرواية الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي. فمن أهم أسباب قوة هذا الفيلم العظيم وتفرده هو لا ريب الأصلُ الروائي المأخوذُ عنه. لكن شاهين أضاف إلى ذلك الأصل تفسيرا سياسيا لم يكن موجودا في رواية الشرقاوي. فهو لم يكتفِ بالطرح المنتمي إلى الواقعية الاشتراكية الذى يجعلُ من الروايةِ أشبهَ بالأعمالِ الأدبية السوفييتية الأولى، بل تخطاه ليقدم عملا نابعا من سياقه الزمنى، يوصِّف آلام اللحظة التاريخية التي خرج فيها إلى النور.
فالرواية الصادرة عام 1954، بعد عامين من قيام ثورة يوليو 52، تنتهى على نبرةٍ متفائلةٍ في أن يخرجَ العمُ أبو سويلم من محبسه وأن يتم تعويضُه هو ورفاقه عن أرضهم المنتبهة، في استشرافٍ واضح لمكتسبات الثورة وقوانين الإصلاح الزراعي. أما الفيلم، فنهايته مغايرة تماما. إذ تم إنتاجُه عام 1969، في أعقاب هزيمة يونيو 67، في وقت كانت مصرُ كلُّها تتشح بالسواد حدادا على شهدائها وحزنا على أرضها السليبة. وبعد أن توقف شاهين عن العمل قرابةَ ثلاثِ سنوات، اختار رواية «الأرض»، وتوجه بها إلى المؤسسةِ المصريةِ العامةِ للسينما التي قدمت له دعما غير محدود.
وبالفعل تكلف الفيلمُ ضعف ما كانت تتكلفه الأفلام عادةً في ذلك الوقت، لكى يخرج بصورة لم تمح بهاءَها العقود. لذلك، ومن واقع الأزمة السياسية التي كانت مصر تشهدها بعد النكسة وأثناء حرب الاستنزاف، قرر يوسف شاهين أن يختار لفيلمه نهايةً مغايرةً لما جاء في الرواية، ليُخرج لنا المشهدَ الختاميَ الأبقى في الذاكرة المصرية، إعلاءً لقيمة الفداء، وابتداعا لأيقونة مصرية خالصة تُعَـرِّف عقيدة الوطنية في أذهان أجيال متلاحقة على أنها التشبث بتراب الوطن والدفاع عن الأرض المصرية حتى الرمق الأخير.
***
راقبتُ الوجوه من حولي أثناء العرض في ضوء القاعة الخافت. استغراقٌ تام! بضع ابتسامات، فمعايشة وتفكر، فاندماج وتدبر. أبصارٌ شاخصة سكبت مع مشهد نهاية الأليم ما ظل معلقا بها من دموع. وطوال العرض، تدافعت لحظات المتعة الوجدانية وتلاحقت: موسيقى علي إسماعيل وعزف أوركسترا القاهرة السيمفوني. أداء محمود المليجي العبقري في هيبته الطاغية ودموعه الشامخة. صلابة الفتى عبدا لهادى وأناقة الفلاحة وصيفة. «الوجه الجديد» على الشريف منبهرا أمام الفلافل في محطة البندر.
النصف ريال الذي سينفق منه الولد الصغير طوال إجازته الصيفية. محمد أفندي المتثاقف التافه راكبا الحمار في طريقه لمقابلة رئيس الوزراء «شخصيا». تعاون الفلاحين لإنقاذ البقرة الواقعة في الترعة بعد أن كادوا في عراكهم أن يقتلوا بعضهم البعض. صلافة الإقطاعي محمود بيه وكلبه الكانيش وكلابه الآدمية. وضاعة العمدة وانتهازية الشيخ يوسف وخيانة الشيخ حسونة. كادرات يوسف شاهين المنبئة منذ البداية بالنهاية المحتومة. وبالطبع لا أنسى حوار حسن فؤاد الذى يلمح إلى سبب النكسة منذ مشهد الاستهلال، حتى قبل ظهور عنوان الفيلم، بجملة باترة كالسيف: «جحدوا الأرض فجحدتهم..!».
و لا أنسى «الماستر سين» الذى يصنعه مونولوج محمد أبوسويلم مسترجعا أمجادَ جيله الثورية وناعيا أحلامهم المجهضة: «كنا رجالة.. ووقفنا وقفة رجالة»..! ولا أنسى انكساره وسط أرضه متسائلا بعد تعرضه للسجن والتعذيب: «يفضل إيه للبنى آدم لما تتهان كرامته؟». وكذلك لا أنسى، وسط كل تلك الأحزان، بهجة حقول القطن المترامية وأغنية «نورت يا قطن النيل.. يا حلاوة عليك يا جميل.. اجمعوا يا بنات النيل»... ولا أنسى في المبتدأ والمنتهى لونَ اليدين اللتين تفتتحان المشهد الأول وتختتمان المشهد الأخير. يدان بلون الأرض وكأنهما امتدادٌ مؤقتٌ لها، يخرجان منها ويعودان بعد عمر من بذل العطاءِ إليها.
***
وبعد، لا أحسب أن أي احتفال مصري رسمي سيتضمن حاليا عرضَ فيلم «الأرض»، كما حدث قبل أقل من عامين في أمسية الرياض. فقد بلغ حد انزعاج الحكومة المصرية مؤخرا من هذا العمل الفني، ومن أيقونة العم «أبو سويلم» ما جعلها تحجب الصحف التي صدَّرت بصورته صفحاتها الأولى مناديه بحق الشعب في معرفة تفاصيل ما جرى في جلسات البرلمان، وما تم قبلها، بشأن مصير جزيرتى تيران وصنافير. بل إن من عبّروا من أبناءِ الشعب عن تمسكهم بمصرية الأرض تعرضوا للهجوم والاعتقال! وكأن المفترض ألا يكون ثمة جدلية تتواتر فيها كلمات «الأرض» أو «مصرية» أو يعود فيها وجه شيخ ملحمة الأرض إلى الظهور.
صار وجه عم محمد أبو سويلم مخيفا للبعض، محرِّضا على التمرد، مستوجبا الحَجب والمصادرة، فيما ازداد تعلّقُ البعض الآخر بصورته حتى صار أيقونة المرحلة، وبطلها الغائب، رُغمَ مآله التراجيدي، مسحولا من قدميه، راويا زهرات القطن الأبيض في أرضه حتى آخر قطرة من دمه. وبين البعض والبعض الآخر تتسع الهوة. إذ إن قرار مجلس النواب الذى تعززه النوايا المطلة من قرار المحكمة الدستورية العليا إنما يزيد الاستقطابات ويعمق الضغائن بين «فصائل» الشعب المصري، بل هو يصنع أحقادا جديدة وينكأ جراحا ستظل تلاحقنا لأننا لم نسعَ أبدا إلى مداواتها بأمانة. لكن الأسوأ هو أن القرار ينخر في عظام الشخصية الوطنية المصرية ويعبث بصفاتها النفسية الوراثية، ويهدد بتشويه عقيدتها الأخلاقية الراسخة.
ففي أعماق تلك الشخصية المصرية الممتدة منذ آلاف السنين، ثمة فلاحٌ عنيد غيور يغار على الأرض غيرته على العرض. فلاحٌ يعود صوته هادرا عبر أصوات مصرية ما زالت تُنشد باستماته تحت البأس نشيدَنا الوطني القديم الذى قدمه لنا يوسف شاهين، وغنته المجموعة من كلمات الشاعرة نبيلة قنديل وألحان الموسيقار علي إسماعيل:
«الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا
عهد علينا أمانة هتصبح بالخير مليانة
يا أرض الجدود يا سبب الوجود
هنوفي العهود بروحنا نجود
وعمرك ما تباتي عطشانة»...
(عن صحيفة الشروق المصرية)
1
شارك
التعليقات (1)
همام الصعيدى
الأربعاء، 28-06-201712:31 ص
كويس قوي يا داليا انك فهمتي انهم استعملوكي زي ورقة كلينكس عشان ينضفوا صورتهم بيها .... و لما اعترضتي على الخيانة دلوقتي بقى ملكيش عازه و رموكي . باقيلك تكه صغيره قوي عشان تفهمي ان دا جيش احتلال بكل معنى الكلمة ، بل اوسخ من الاحتلال.