تميّز المشرق العربي، بكونه المكان الأكثر اضطرابا في العالم بعد الحرب الثانية؛ فهو الجغرافية التي لم تشهد توقفا للحرب منذ 1948، فكانت المعارك تهدأ على جبهة لتشتعل في جبهة أخرى، لكن التوتر لم ينقطع أبدا داخل مجتمعاته، التي ظلت تعيش على وقع الحروب المتنقلة.
من حروب العرب والإسرائيليين، إلى حروب العرب الداخلية " حروب مصر في اليمن وليبيا"، إلى الحرب الإيرانية- العراقية، والحرب الأهلية اللبنانية، ومذابح النظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي في حماة وإدلب وحلب، وحروب أمريكا في الخليج، إلى حروب الأكراد وتركيا وحروبهم مع بعضهم، لم يغب صوت البارود ولا رائحته عن سماء المنطقة، التي ما انفكت تنزف من دماء أبنائها دون جدوى ولا أفق للخلاص.
وفي كل المراحل، كانت الحروب الداخلية، أشد وطأة وفداحة، حيث شنت الأنظمة الحاكمة حروبا ممنهجة ومستمرة لإخضاع الشعوب، وقتل كل ما تتصوره خطرا ممكنا ومحتملا، ولإنجاز هذه المهمة زرعت الرعب في القلوب والنفوس، وصنعت أجهزة جبارة مهمتها مراقبة الشعب فردا فردا ويوما بيوم.
ولم تكن الطبيعة أرحم، فقد ضرب الجفاف أنهار سوريا والعراق وفلسطين، وذبل الزرع والضرع في منطقة اشتهرت بتراثها الزراعي واعتماد شعوبها على الزراعة كمصدر رزق وقوت، في ظل عدم اهتمام " الدولة" بإيجاد بدائل، أو المحافظة قدر الإمكان على هذا القطاع.
بيد أنه يحسب للمشرق العربي، أنه عاند كل تلك الظروف والمصاعب والكوارث، وكان سرعان ما يداوي جراحه ويعود للحياة مرّة أخرى، معتمدا على احترافية شعوبه في التكّيف مع التغييرات ومحاولتها خلق فرص من تلك التحديات، فرغم قساوة الاحتلال الإسرائيلي استطاع المجتمع الفلسطيني التشبث ما استطاع بأرضه وإنتاج ثورات قي وجه احتلال إسرائيل أدهشت العالم كله، كما حافظ اللاجئون على هويتهم رغم كل التحديات التي واجهتهم، وصنع الأردنيون دولة على الرمال كانت الأمم المتحدة قدّرت في أحد تقاريرها عام 1960 بأنها دولة محكومة بالزوال" إلى جانب ليبيا قبل اكتشاف النفط"، لقلة الموارد بما فيها الماء، كما تجاوز اللبنانيون حربهم وأعادوا بناء ما دمرته، وعبر السوريون سلسلة مجازر حافظ الأسد ليشعلوا ثورة على وريثه زعزعت حكمه إلى الأبد.
اليوم، يبدو المشرق عاجزا عن اجتراح صيغة للخروج من المأزق الراهن، فلا ملامح ثورة في فلسطين رغم اشتداد الخطر ووصوله إلى أبواب بيوت الضفة الغربية، ويتعثر السوريون في تجاوز العتبة الأخيرة للحرية، بل ويتصارع من يفترض أنهم أمل الخلاص، رغم أن شبح الفناء يلوح فوق روؤسهم، كما أن جرح العراق ينزّ دما لا ينقطع، فيما العراقيون يرقصون في حفلة الموت الرهيبة، ويقيم اللبنانيون على حافة الخطر الذي ينمو ويتطور كل يوم، فهل هي تراكمات تعب السنين الخالية وضعها العقل الباطن في مواجهة الجسد وأقعده عن المقاومة، أم إن الهجمة الحالية تفوق حدود المقدرة على المجابهة والصمود؟
باستثناء فلسطين، انحصرت الحروب السابقة في نطاق جبهات محدّدة "الحروب العربية- الإسرائيلية"، أو تم توجيهها ضد قطاعات معينة "حروب الأنظمة على أحزاب وجماعات إسلامية ويسارية"، وبذلك ظلّ ممكنا احتواء الخسائر والتعايش قدر الإمكان مع آثارها وتداعياتها، وفي فلسطين تم إنتاج صيغة المقاومة في الداخل والخارج لمواجهة زخم الهجوم الإسرائيلي وكسر اندفاعاته، في ظل ظروف عربية ودولية مساعدة، إلى حد ما، وجميع هذه المعطيات تراجعت اليوم بالتزامن مع تصدع الجوار العربي وحالة الانقسام السياسي الذي تضرب الوضع الفلسطيني منذ سنوات.
وفي سوريا تتفق الحرب على كل الجبهات، وتندمج حروب الخارج مع حرب نظام الحكم مع فوضى المقاومة، ما يصعّب من المواجهة، ويجعل السلام مستحيلا في حرب لا تبحث عن الحلول بقدر ما تنشغل طاقاتها من أجل هدف إبادة الخصم، وهذا نمط من المواجهات. ولكونه يتجاوز خبرات شعوب المشرق على التكيف ويتخطى حدود مقدرتها على التحمل، فإنه يضع مستقبلاتها أمام خيارات محدودة وصعبة بالآن نفسه.
هل يخرج المشرق الذي تجاوز يوما كوارث الاستعمار والحروب والمجاعات؟ كل التقديرات تشير إلى أن هذه الواقعة مختلفة ولا بد أنها ستنتج متغيرات ووقائع على شاكلتها، رغم أن الذاكرة التاريخية ما انفكت تخبرنا أن هذا المشرق نفسه سبق أن تم إعلان وفاته على يد هولاكو، لكنه عاند وواصل صيرورة التحدي والحياة، والأمل أنه قد يفعلها هذه المرّة.