كتاب عربي 21

في هجاء جملة "ألم نقل لكم"!!

1300x600
نبي الإنسانية يقول: ليس الواصل بالمكافئ، العبارة تنسحب في التأويل على الجانب الأسري والاجتماعي، أي ليس من يصل رحمه بمن ينتظر مكافأة على هذا، أو بمن يفعل مكافأة للطرف الآخر، فالصلة مبدأ، نفعله سواء كنا نحبهم أم نكرههم، وسواء كانوا يستحقون أم لا، عبارة عبقرية، حديث مدهش، يمكنك أن تسحبه إلى المجال العام، أكثر من الخاص، بكل مشتملاته، وتجد ما يريحك، وينظم العلاقة بينك وبين أفكارك وما تؤمن بصحته، ولا يجعل للناس عليها سلطان.

ليس الحقوقي بالمكافئ، ندافع عن حقوق الناس، لا لأنهم كانوا سيدافعون عنا لو كنا في المكان نفسه، ولا لأنهم يستحقون، بل لأننا نؤمن بذلك، هب أن الإسلاميين لم يدافعوا يوما إلا عن حقوقهم، ولم يتضامنوا إلا مع من يشبههم، - وفي هذا بعض التعسف – فهل يعني ذلك أن نخسر أنفسنا بتأييد ظلمهم أو الجور على حقوقهم ولو بالسكوت؟

الخط على استقامته قد يشمل من أيدوا الطغاة خطأ أو مصلحة ثم دارت الدائرة عليهم، ولكن ظلما، قد يكون ذلك قصاصا قدريا عادلا، وقد يكون مصداقا لـ "من أعان ظالما سلطه الله عليه"، لكن هل يعني ذلك التخلي عما نؤمن به من قيم العدل والحقوق، لصالح مشاعر الشماتة؟ دورالمؤمن هنا، بمعتقده، ومبادئه، تأييد الظالم في ظلم من أعانه، أم إعانة المظلوم على من ظلمه؟ 

ليس المدافع عن الحريات بالمكافئ، كلهم يحبون حريتهم، وكلهم يكرهون حريتك، وقد تكون أنت كذلك، الحل هو حرية الجميع، مبدأ وقيمة، قد لا يدافع أولئك عن حريتك بدعوى أنها تخالف ما فهموه من الشريعة، وقد لا ينحاز هؤلاء لحريتك بدعوى أنها تخالف ما تعارف عليه الناس في الدولة الحديثة والمجتمعات العصرية، فهل يعني ذلك أن تكافئهم بمثل صنيعهم، الانحياز لـ "قيمة" الحرية وحده يحفظ عليك حريتك، وينتزعها لك ممن كفروا بها، ولو كرهوا، لا تراقبهم كي تحدد موقفك، راقب نفسك، وما تؤمن به، وليعمل كل على شاكلته كما يقولون!!

ليس الثائر بالمكافئ، الآن يقولون على الناس إنهم عبيد، كانوا أعظم شعوب الأرض حين انتخبوهم، وحين رفضوهم صاروا عبيدا، وستشملهم اللعنة، الآخرون بدورهم يسمونهم الرعاع، الجهلاء، كانوا أحفاد الفراعنة، ونتاج التجربة الحضارية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كانوا كذلك حين شاركونا الميادين وصاروا كذلك حين صوتوا لخصومنا، الناس في نظر الطرفين أنفار، معنا فهم يستحقون، ضدنا فلا حقوق لهم، وخسارة فيهم الثورة، ليكن الناس كما هم، عظماء أو بؤساء، لكن الثورة لحقوقهم مبدأ لأصحابها لا مكافأة عن فعل مسبق، أو ثمن مقدم لفعل لاحق، لم يثر الناس يوما لحقوقنا، لم يخرجوا في مظاهرة لاعتقال أحدنا، لم يؤذهم إيذاؤنا أو مصادرة كلمتنا، ومنعها، لكن هذا لن يغير شيئا من أن الثورة لحقوقهم قبل حقوقنا هي واجبنا، ليس لأنهم يستحقون أو لا يستحقون ولكن لأننا نؤمن بذلك.

ليس الناقد بالمكافئ، أنتقدهم لأنني أحبهم، بل أنتقدهم لأنني أكرههم، بل لأنهم آذوني، بل لأنهم انتقدوني، كل هذا كلام فارغ، النقد قيمة، ولولا الناقد لتحكم فينا الجاهل، ولماذا "لولا"، نحن بالفعل تحت رحمة الجاهل في الدين والسلطة والتعليم والثقافة والإعلام، وكافة أمورنا لغياب الناقد، لخوفه، لطمعه في رضاء الجماهير أو السلطة أو كليهما، لقلقه من الاغتيال المادي أو المعنوي، غاب الناقد فغابت الحقيقة، وصرنا نعيش في أكاذيب بعضها فوق بعض، وغبنا ونحن نظن أننا حضور!

ألم نقل لك.. هي جملة الأصدقاء التي لا يكفون عن قولها ولا أكف عن رفضها، لا يملون فيما مللت، الجملة تلقى رواجا في دوائر التواصل الاجتماعي الحقيقي والافتراضي، الجميع يقولها للجميع، ألم أقل لكم، "مش قلنالكم"، شفت .. فاكر لما قلت، لما قلنا، الحقيقة أن تسعة أعشار ما أسمعه وأقرأه ويصلني، قصدا أو بغير قصد يأتي من أناس لم يقولوا يوما شيئا، لا لنا ولا لغيرنا، إلا أن "ألم نقل لكم" هذه شهوة في حد ذاتها، أما من أخبرونا عن بؤس هؤلاء أو هؤلاء وعدم استحقاقهم لشيء مما نكتبه فإنهم، مع كل الاحترام، لم يضيفوا جديدا، فلو لم ندافع إلا عمن يستحق ما دافعنا عن أحد ولتحولت الدنيا إلى غابة، يأكل فيها القوي الضعيف وكفى، إنما ندافع عما نؤمن به، لأننا نؤمن به، بالأحرى ندافع عن أنفسنا، لأننا بدورنا في نظر آخرين لا نستحق!