عندما غزت فرنسا
مصر في نهابات القرن الثامن عشر، وجدت مقاومة عنيفة من المصريين فور سقوط القوات النظامية المملوكية، كما نجحت المقاومة المصرية في دحر العدوان الإنجليزي في 1807.
أدرك محمد علي خطورة امتلاك الشعب للسلاح أيا كان، وأدرك أيضا ضرورة كسر إرادة الشعب لاستخدام السلاح إذا لزم الأمر، فقام بتأميم القوة المسلحة، ونزع السلاح من الشعب المصري، ومنذ ذلك الحين، وهناك قوة واحدة تحتكر القوة الخشنة، وهي الدولة.
وبعد ما يقرب من ثمانين عاما، عندما انهزم عرابي في التل الكبير، وسقط الجيش النظامي، ربما لم تطلق رصاصة واحدة على الجيش المحتل الغازي من الشعب؛ فقد نجحت الدولة في تأميم السلاح، ونجحت في كسر إرادة استخدامه من الشعب.
استمرت الأمور حتى نهايات الأربعينيات وكان المجتمع المصري على وشك تحول تاريخي بالسماح للمواطنين بحمل السلاح حيث تصبح الإباحة هي الأصل في تملك وحمل السلاح إلا أن "الجيش" كان الأسبق بانقلابه في 1952.
وعلى بعد آلاف الكيلومترات، وفي مكان آخر، بعد ما يقرب من مئة عام من هزيمة عرابي، وعشرات السنين من انقلاب يوليو الأول في مصر، وقعت مذبحة في سربرنيتشا، بعد أن سلم البوسنيون أسلحتهم "للأمم المتحدة"، عندما أعلنوا أن المدينة تحت حمايتهم بأربعمئة جندي هولندي.
نسي البوسنيون ما حدث في مصر، وما لاقاه المجتمع المصري من بطش واستعباد تحت حكم الطاغية محمد علي عندما جردهم من القوة الخشنة، نسوا ما حدث في
الجزائر قبلهم بسنوات قليلة في مجزرة فض اعتصام جبهة الإنقاذ، ونسي البوسنيون أن في لحظات القتل لن يحميك أحد، فلم تحرك القوة الهولندية الدولية ساكنا عندما قرر الصرب ذبح سربرنيتشا، ولم يتحرك العالم إلا بعد تأكده من انتهاء المذبحة وأنها أدت دورها.
وبعد ما يقرب من عشرين عاما، نسي المصريون في رابعة سربرنيتشا
البوسنة وسربرنيتشا الجزائر، وكرروا المأساة بتفاصيلها، دون حتى أدنى رغبة في تغيير أبسط التفاصيل.
مدينة سربرنيتشا قتلت بعد تسليم سلاحها طواعية، فكان جزاؤهم القتل بمساعدة من سلموا لهم سلاحهم، والباقي قتل عندما جسَّد بقرة مقدسة غير قابلة للمناقشة بضرورة احتكار الدولة للقوة المسلحة، وكأنها كتاب منزل، وأصبح الحق الذي لا يأتيه الباطل أن قتلك على يد "الدولة" هو الحق المبين، ودفاعك عن حياتك أمام الدولة الإله هو العار الذي لا يمحي.
يقول أهل صعيد مصر "العز في أفواه البنادق"، تلك البنادق التي تجعل من يريد تحطيمك يفكر ألف مرة قبل أن يتقدم نحوك. تلك البنادق التي تجعلك قادرا على حماية نفسك من بطش الباطشين.
على مدى التاريخ، كان امتلاك السلاح هو الأصل، ولم تكن السلطة -متمثلة في رأسها بأي مسمى- محتكرة للقوة بهذا الشكل المخيف. وما حدث في القرون السابقة هو تغيير ضخم في علاقات القوة بين السلطة والمجتمع، وأصبح المجتمع رهن قرار محتكري القوة الخشنة.
والأكثر خطورة هو استسلام غالبية المجتمعات لفكرة احتكار الدولة للقوة الخشنة بكل أشكالها، وأصبح الحديث المخالف لذلك ضربا من الجنون المتكامل، ونسيت هذه الأغلبية أن اختلال توازن القوى هو أكبر محفز للاستبداد، ونسوا أيضا أن امتلاك القوى -حتى وإن لم تكن متكافئة- يقلل من احتمالات القهر والاستبداد.
فسربرنيتشا البوسنة لم تكن لتحدث بهذا الجنون إن استمر البوسنيون في امتلاك سلاحهم، وقهر محمد علي للمصريين واستعبادهم سيكون أقل وطأة إذا لم يؤمم السلاح، وسربرنيتشا الجزائر وسربرنيتشا مصر والعراق وسوريا ربما لم تكن لتحدث.
إن سربرنيتشا ليست مجرد مذبحة، ولكنها نموذج للاستسلام لاحتكار القوة المسلحة الذي يؤدي حتما إلى المذابح بأشكالها المتعددة.
يقول البند الثاني من الدستور الأمريكي إن وجود مليشيات منظمة جيدا هو ضروري لأمن الدولة الحرة، إن حق الناس في الاحتفاظ وحمل الأسلحة لن يمس.
وحاول البعض بعد اغتيال كنيدي تعديل هذا النص، ولكن كان قرار المحكمة العليا الأمريكية أن حق الشعب في امتلاك السلاح هو أكبر سلاح ضد خطر بزوغ ديكتاتورية الدولة في أمريكا. الشعب المسلح لن يستطيع أن يحكمه طاغية.
إن امتلاك المجتمع للسلاح هو إحدى الركائز الكبرى لحمايته من الاستبداد والاحتلال، وهو خط الدفاع الرئيسي ضد الغزاة، وهو المانع للدولة من البطش والاستبداد، وأثبتت التجربة أن العالم أصبح أكثر فسادا عندما استسلمت المجتمعات لاحتكار الدولة للقوة الخشنة، واختلت توازنات القوى بين المجتمع والدولة، وأصبحت الجيوش المحتكرة للقوة المسلحة هي أداة لفرض رؤية الأقوى، ولا عزاء للشعوب التي سلمت نفسها لاحتكار الدولة للقوة المسلحة.