مقالات مختارة

إشكالية إنسانية تفرضها قضية فلسطين

جيتي
بعد مرور أكثر من ثلاثة أرباع القرن على محنة فلسطين وأهلها، يصعب إصدار حكم حاسم حول مدى تجسد الإنسانية في المواقف والسياسات بشأنها. لكن يمكن القول؛ إن هناك خطّا يفصل بين حكومات العالم وشعوبه إزاء القضايا الإنسانية.

وبشكل عام، يُسجل للشعوب مواقفها الإنسانية المشرّفة حول القضية، بينما تتفاوت مواقف الحكومات بشكل كبير، ولكنها تتجه عموما للتشبث بمقولات الدبلوماسية وإملاءات الدول الغربية الكبرى، التي فشلت في مواقفها الإنسانية تجاه فلسطين وأهلها.

ويمكن قياس تلك المواقف بلحاظ بضعة جوانب: الموقف من الاحتلال ومدى رفضه أو إقراره، الثاني: السباق بين المصالح والمبادئ في المحافل الدولية، الثالث: دعم المنظمات الإغاثية التي تعمل للتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، الرابع: مدى استعداد الدول لتحدّي ما يعده الغربيون «الأمر الواقع» لتبرير الصمت إزاء القضية، أو التلكؤ في اتخاذ مواقف تجاه «إسرائيل» عندما ترتكب المجازر التي ترقى أحيانا إلى مستوى الإبادة.

لذلك تتساءل فلسطين اليوم: ما هي قواعد الحرب؟ وذلك في ضوء استهداف المدنيين وعمال الإغاثة والمستشفيات في الأراضي المحتلة. فهذه القواعد تمثل القدر الأدنى الذي يحفظ الإنسانية في واحد من أبشع الصراعات التي شهدها العالم.

لقد تواترت الأزمات ذات العلاقة بقضية فلسطين، وكان الموقف من منظمة «أونروا» مثيرا للقلق ومشاعر الأذى. فقد هرعت الدول الغربية لوقف دعمها لهذه المنظمة التي تعمل لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين، بسبب الادّعاء بأن بعض موظفيها لهم علاقة بما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. هذا الموقف يمكن اعتباره فيصلا بين الإنسانية وعدمها لدى حكومات الدول التي أوقفت دعمها للمنظمة.

ولوحظ هنا مواقف ثلاثة: أولها موقف الدول الغربية عموما، التي التزمت منذ بدء الاحتلال سياسة دعمه دون تردد، وتميز هذا الموقف بالوقف الفوري للمساعدات. ثانيها: مواقف الحكومات العربية، خصوصا النفطية التي كان بإمكانها تمويل المنظمة بشكل كامل، أو تأسيس أخرى تقوم بدورها، وذلك تحاشيا للمساومات الغربية. ثالثها: مواقف الدول التي التزمت موقفا إنسانيا مشرّفا، وأصرّت على دعم المنظمة متجاهلة الادّعاءات المسيّسة ضدها.

فمثلا رفضت جمهورية إيرلندا وقف الدعم عن أونروا، وتعهدت بتقديم دعم قدره 20 مليون يورو، وقال وزير خارجيتها في تصريح شجاع: «في غزة، أصبحنا شهودا على كارثة إنسانية. فالبشر هناك في أمس الحاجة لأبسط الاحتياجات الحياتية من طعام وماء ومأوى».
وبدلا من استهداف أونروا قال: «في هذه الظروف المرعبة جد،ا ومع تصاعد احتمالات التصعيد العسكري، تبقى أونروا حجر الزاوية للدعم الإنساني». هذا الموقف الإيرلندي له أسبابه، التي من بينها عمق وعي شعبها بحقيقة القوى الاستعمارية، التي تمارس استغلال الشعوب ولا تلتزم بالقيم والأخلاق الإنسانية.

وفي مقابل إيرلندا، تصر الولايات المتحدة ليس على دعم «إسرائيل» فحسب، بل حمايتها على المستوى الدولي، وتستخدم حق النقض (الفيتو) لمنع صدور أي قرار دولي من مجلس الأمن يدين سياساتها.

وفي العقود الخمسة الماضية، أي منذ العام 1972 استخدمت واشنطن الفيتو 45 مرة لمنع صدور قرارات عن مجلس الأمن تدين «إسرائيل»، وآخرها في 18 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لمنع صدور قرار يدعو لوقف إطلاق النار.
أمريكا هنا لا تمنع الإغاثة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني المحاصر فحسب، بل تدعم استمرار القصف اليومي الذي أدى في الشهور الأربعة الأخيرة لمقتل حوالي 30 ألف شخص، يمثل الأطفال أكثر من ثلثهم.

فمنذ تأسيس الأمم المتحدة في العام 1945، لم تلتزم «إسرائيل» بأي قرار صدر عنها حول فلسطين وشعبها، ووقفت الولايات المتحدة مدافعة عنها في كل مرة. وهكذا تم تهميش المنظمة الدولية. ومن المؤكد أن إنهاء الدور الإغاثي لمنظمة أونروا، إنما هو استهداف غير إنساني للاجئين الفلسطينيين، الذين احتل الصهاينة أرضهم ظلما وعدوانا.

منذ تأسيس الأمم المتحدة في العام 1945، لم تلتزم «إسرائيل» بأي قرار صدر عنها حول فلسطين وشعبها، ووقفت الولايات المتحدة مدافعة عنها في كل مرة.

ما هي الإنسانية إذن؟ وأين هو السياسي الغربي من القيم والمبادئ التي يُفترض أن تحمي البشرية من الظلم والعدوان والجوع والخوف؟
كان هناك ضغط حقيقي على كيان الاحتلال وداعميه عندما كانت الدول العربية ملتزمة بالقضية، ولكن تراجع ذلك الالتزام أحدث فراغا كبيرا في الدعم السياسي لفلسطين، وتأثرت بذلك مشاريع الإغاثة. في هذه الأثناء، استمرت سياسات الاحتلال في الاضطهاد والقمع، ولكن بقيت المشاعر الإنسانية تحرّك جهات دولية خصوصا خارج الحكومات.

وعرف عن الفاتيكان رفضه مشروع إقامة وطن لليهود في فلسطين، وعندما طلب المنظّر اليهودي هرتزل من بابا الفاتيكان (بيوس العاشر) في 1904 مساعدته لإقامة وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية قال: «نحن لا نستطيع أن نساند هذه الحركة (الصهيونية)، ولا يمكننا منع اليهود من الذهاب إلى القدس، كما أننا لن نضع قيودا عليها. إن أرض القدس، وإن لم تكن دائما مكرّسة لعبادة الله، قد قدسها السيد المسيح بحياته فيها، وأنا بصفتي رئيسا للكنيسة لا أستطيع أن أجيبك خلاف ذلك. اليهود لم يعترفوا بالمسيح، لذلك لا يمكننا نحن الاعتراف بالشعب اليهودي، والقدس على هذا الأساس لا يمكن وضعها في أيدي اليهود».

واستمرت الحساسية بين الطرفين حتى الآن. وفي الأسبوع الماضي قال وزير خارجية الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين؛ إن الرد العسكري الإسرائيلي على حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)، غير متناسب وتسبب في وقوع «مذبحة». فانتقدت سفارة الاحتلال لدى الفاتيكان ما أسمته «تصريحات بارولين المخزية». وقالت؛ إن حركة حماس تتحمل كل المسؤولية عن القتل والدمار في القطاع. وزاد توتر العلاقات بين الفاتيكان وإسرائيل منذ بداية الحرب في غزة، واتهمت جماعات يهودية البابا فرنسيس، بالامتناع عن عدم وصف غزو القطاع الفلسطيني بأنه عمل من أعمال الدفاع عن النفس.

الدافع الإنساني كان حاضرا في الصراع المتصل بفلسطين، ويزداد هذا البعد حضورا حين ترتكب «إسرائيل» المجازر، أو تستخدم أحدث أسلحتها ضد الفلسطينيين في استعراض للقوة يعدّه الآخرون غرورا. وقد ارتكبت أخطاء شنيعة في عهد رئيس وزرائها الحالي، بنيامين نتنياهو، الذي أعلن بوضوح استعداده لمنع الغذاء والدواء عن غزة. كان ذلك التصريح كافيا لإثارة مشاعر العالم ضد كيان الاحتلال، وقد خسر بسبب ذلك أي تعاطف كان يحظى به بين الشعوب الغربية. وربما كان ذلك من بين الدوافع التي أدّت لتصدّر جمهورية جنوب أفريقيا، من منطلق إنساني، قضية فلسطين برفع قضية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة «الإبادة».

هذا الموقف أحرج الغربيين كثيرا، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، إذ لا تستطيعان استهداف جنوب أفريقيا بشكل واضح. ومن أسباب ذلك أنهما دعمتا النظام العنصري دون حدود قبل سقوطه في العام 1991، وبذلتا جهودا كبيرة لترميم علاقاتهما مع النظام الذي أقامه نيلسون مانديلا بعد ذلك. وقد كان لموقف جنوب أفريقيا أثر نفسي كبير على شعوب العالم؛ نظرا لما تكنّه من احترام لمانديلا، وما تمثله جنوب أفريقيا كأيقونة للنضال ضد العنصرية التي دعمها الغربيون سابقا.

كان بإمكان الاحتلال الإسرائيلي الحفاظ على ما كان يحظى به من تعاطف وإن كان محدودا. ولكن سياساته وقراراته كثيرا ما أحدثت ردود فعل سلبية ضده.

فعندما أعلن عزمه على إخلاء قطاع غزة من السكان، فهم العالم أنه يريد ضم تلك المنطقة للأراضي التي احتلها على مدى ثلاثة أرباع القرن. وأصبح مشهد أكثر من مليون فلسطيني وهم يفرّون من منازلهم تحت التهديدات الإسرائيلية في اتجاه رفح، تحدّيا للإنسانية، وأصبح أكثر إيلاما عندما صمت الغربيون عن ذلك وسمحوا بتلك الجريمة. واليوم يصر المحتلون على إخلاء منطقة خان يونس من سكانها الفلسطينيين بدفعهم للخروج منها لتدميرها.

هذه الأساليب قد تحقق للصهاينة «إنجازات» ميدانية على المدى القريب، ولكنها تعدّ تحدّيا للإنسانية وللنظام السياسي الدولي أيضا، كما تغذي تهمة الإبادة. صحيح أن سياسات التشويش والتضليل والتنويم والإلهاء تساهم في تقليص اهتمام العالم بما يجري في فلسطين، ولكن الصحيح كذلك أن الدور الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي، يساهم في إظهار الحقائق حتى لو تجاهلها الإعلام الدولي الذي يهيمن الغربيون عليه.

ولذلك، تتحرك المشاعر الإنسانية في نفوس الكثيرين على نطاق ربما لا يتوقعه الساسة الغربيون أنفسهم. وما المسيرات الاحتجاجية العملاقة التي تجوب شوارع المدن الغربية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، إلا تأكيد لحالة وعي دولي غير مسبوقة؛ فالعالم لم يشهد من قبل تظاهرات بهذا الزخم البشري الهائل.