مقالات مختارة

انسداد أفق الحسم العسكري في فلسطين

جيتي
كان أمرا مستغربا جدّا رفض الدول الغربية مشروع قرار أممي لوقف مؤقت لإطلاق النار في الأراضي المحتلة لكي يمكن إيصال مساعدات إغاثية لأهالي غزة . وربما الأشد غرابة فشل ما سمي “قمة القاهرة للسلام” التي عقدت يوم السبت الماضي، في إصدار قرار بوقف إطلاق النار، وعدم صدور بيان ختامي يمثل المشاركين فيها من حكومات عربية وأوروبية.

 وكانت روسيا قد طرحت الأربعاء الماضي مشروع القرار على مجلس الأمن، ولكن رفضته كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، واستخدمت أمريكا حق النقض لمنع صدوره. وهذا أمر مقلق جدا، فكيف استطاعت هذه الدول رفض قرار يخفف أزمة قد تكون الكبرى في المنطقة، ويحمي أرواح الكثيرين الذين تحصر أرواحهم آلة الموت الصهيونية بشكل يومي. وها هو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يدعو بقوة إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة.
 إن من الصعب أحيانا تصديق ما يحدث في عالم يُفترض أن قواه الكبرى تعمل لتحقيق السلام العالمي، وتدّعي أن سباق التسلح إنما هو وسيلة ردع لمنع نشوب النزاعات المسلحة. في الحالة الفلسطينية لا تنطبق هذه الفرضية؛ نظرا لعدم وجود توازن عسكري بين الطرف المحتل وأصحاب الأرض الذين يسعون لتحريرها.

 وفي خضم السجالات السياسية الدولية، تغيب حقائق عن أذهان أصحاب القرار. وفي مقدمة هذه الحقائق أن فلسطين أرض محتلة، أُبعد سكانها الأصليون من منازلهم وأجبروا على الفرار إلى خارج حدود فلسطين، أو تم توطينهم في مخيمات ما تزال قائمة.

 أما الجانب الآخر من هذه الحقيقة، فإن أغلب من يستوطن أرض فلسطين اليوم إنما جاء من خارج الحدود ضمن مشروع هجرة واسع، فتح الباب أمام يهود العالم للاستيطان في ما يسمونه “أرض الميعاد”. هذه حقيقة لا تجد لها موقعا في السجال الدائر حول ما يجري في فلسطين. أما الحقيقة الثانية، فتتمثل بوجود موقف غربي جديد – قديم دعم ذلك المشروع منذ بداياته، وما يزال متشبثا بسياسة ثابتة: حماية كيان الاحتلال وضمان تفوقه العسكري على الجانب العربي. 

هذه الحقيقة تجد مصاديق لها في مواقف دول الغرب من قضايا فلسطين في أوقات الحرب والسلم. أما الحقيقة الثالثة، فتتمثل بغياب موقف عربي – إسلامي يرقى إلى مستوى المسؤولية ويتعهد بحماية الحق الفلسطيني وتحرير الأرض المحتلة. والحقيقة الرابعة التي تستعصي على فهم الكثيرين، تتجسد بصمود الشعب الفلسطيني على مدى ثلاثة أرباع القرن، ورفضه التنازل عن أرضه، وإصراره على تحريرها، واستعداده للتضحية بكل ما يملك من أجل ذلك.

في ظل هذه الحقائق، فإن النظرة للوضع الحالي الذي تبلور منذ السابع من أكتوبر، برغم دمويته وشمول العدوان فيه وتضافر القوى المعادية كافة للشعب الفلسطيني، تأخذ مسارا آخر غير ما تسعى “إسرائيل” وداعموها الغربيون لترويجه.

هذا المسار يتأسس على استحالة حسم الحرب الحالية التي تشنها قوات الاحتلال بدعم غربي واسع. فالقتل الجماعي الذي تجاوز الحدود والمعدلات السابقة، لا يمثل حلا للأزمة ولن يوفر للمحتلين ما يبحثون عنه من أمن واستقرار، ولن يجتث أهل فلسطين من الوجود. فما يبحث عنه الصهاينة خيالٌ لا يمكن أن يتحقق؛ لأنه قائم على فرضيات من صنع الخيال أولا وشعور بالغرور غير محدود، وتأسيس على فرضيات ثبت مرارا عدم جدواها. 

وقد استوعب الكثيرون حالة الهوس التي يعيشها قادة الكيان، وأصبحوا يدركون الأخطار التي قد تنجم عن تصوراتهم. وبرغم تصاعد الضحايا الفلسطينيين خلال الأسبوعين الماضيين، إذ تجاوز عددهم 4000 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى ومئات الآلاف من اللاجئين، فالمتوقع تضاعف هذه الأعداد في الأسابيع المقبلة لأسباب عديدة:

 أولها؛ أن حكومة نتنياهو المتطرفة رسمت أهدافا غير واقعية، لكنها لن تعترف بفشلها، بل ستواصل قصف غزة بعد إخلاء بعض سكانها، بذريعة استهداف أعضاء حركة “حماس”.

وقد بدأت قوات الاحتلال عمليات اغتيال واسعة تستهدف عناصر قيادية في المقاومة الفلسطينية، طالت كلا من جهاد المحيسن وجميلة الشنطي.

 ثانيها؛ استمرت في القصف الشامل لمناطق غزة كافة، دون توقف، ودمرت ربع مساحة مدينة غزة وشمال القطاع، وأصبح على الأقل 20 في المئة من المنازل غير صالحة للسكن، وتضرر بشكل بليغ حوالي خُمس الوحدات السكنية بمحافظتي غزة والشمال.

 ثالثها؛ الصمت الدولي المطبق أصبح عاملا مشجعا للإسرائيليين لمواصلة عدوانهم. هذه المرة أصبح العدوان مدعوما من قبل دول “العالم الحر” في تحد سافر للأعراف والقوانين الدولية، التي تعد استهداف المدنيين جرائم حرب. وثمة شعور بالإحباط الشديد لدى المنظمات الحقوقية والإغاثية إزاء التواطؤ الدولي في هذه الجرائم، إذ لم تعد أنباء سقوط الضحايا المدنيين أو تدمير البنى التحتية أمرا مقززا لدى ساسة العالم. 

رابعا؛ أن الغرب منح “إسرائيل” غطاء سياسيا لارتكاب جرائم الحرب، وتواطأ معها في التعتيم على جرائم القتل الجماعي ومنها قصف مستشفى “المعمداني” الذي أدى لاستشهاد 500 فلسطيني على الأقل.
أصبح العدوان مدعوما من قبل دول “العالم الحر”، في تحد سافر للأعراف والقوانين الدولية، التي تعدّ استهداف المدنيين جرائم حرب.

وقد حقّق الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لنفسه سجلا مخجلا عندما رفض استنكار تفجير مستشفى المعمداني؛ متعللا بأنه من فعل “الطرف الآخر” أي الفلسطينيين. وكان واضحا منذ البداية أن الجريمة ارتكبها الجانب الإسرائيلي. كان بايدن يعلم أن جرائم الحرب من هذا العيار لا تحظى باهتمام واسع أو تحقيق مستقل.
لقد كانت زيارة بايدن للكيان الإسرائيلي تعبيرا عن سياسة أمريكية ثابتة، منطلقة من عقلية شيطانية لا تحترم النوع الإنساني، ولا تلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية. فما دامت أمريكا قد تعهدت بضمان أمن “إسرائيل” وتفوقها العسكري على الجانب العربي، فلماذا هذا الاستفزاز الذي تنكر للأخلاق وتجاهل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة؟ ما المصلحة الاستراتيجية لأمريكا في التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي لارتكاب واحدة من كبريات جرائم الحرب؟ حتى هذه اللحظة لم يصدر “العالم الحر” موقفا واضحا يضغط على الإسرائيليين لوقف الحرب البرية التي يعدّون لها بعد إخلاء غزة من سكانها. 

واتضح هذا الموقف أكثر خلال قمة القاهرة قبل يومين؛ وبدلا من منع تل أبيب عن تنفيذ هذه الخطة الدنيئة، بدأ الأمريكيون يضغطون على مصر والسعودية ولبنان للقبول بتوطين سكان غزة بعد ترحيلهم.

وفي الوقت الذي تعاني فيه أوروبا من أزمة اللاجئين الذين يعبرون البحر ليصلوا إلى شواطئها، تعمل أمريكا إلى جانب “إسرائيل” لإحداث أزمة جديدة وإضافة مليوني فلسطيني إلى موجات اللاجئين المتوجهين إلى أوروبا. لماذا لا يقف الأوروبيون موقفا واضحا يرفض المشروع الأمريكي – الإسرائيلي الهادف لخلق مشكلة إضافية تزيد أعداد اللاجئين وتشجع الهجرة عبر البحار بحثا عن ملاذ آمن؟

يوما بعد آخر يتضح أن حرب غزة هذه المرة تختلف تماما عن سابقاتها، وما التحشيد السياسي والإعلامي والعسكري الذي يقوم به الاحتلال، إلا تأكيد لحالة جديدة غير مسبوقة، تعرّض أهل غزة للمزيد من المخاطر، وربما التصفيات الشاملة والتهجير. ويأمل الإسرائيليون والأمريكيون أن تكون هذه الحالة حاسمة للقضية التي استعصت على الانقراض، وترفض الحلول كافة التي لا تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. فظاهرة التحشيد باتجاه واحد لا يسمح بالتراجع، غير مسبوقة، وكذلك إصرار كلا الطرفين على الحسم النهائي ظاهرة جديدة تعكس ما بلغه الطرفان من يأس إزاء أية تسوية سياسية محدودة.

 فلا المحتلون يقبلون بوجود كيان فلسطيني مستقل على حدود الأرض التي يحتلونها، ولا هم مستعدون للقبول بما يسمى مشروع الدولة الواحدة التي يقطنها الفلسطينيين كافة واليهود، ويدلون بأصواتهم متساوين أمام صناديق الاقتراع. لذلك لا يبدو هناك تفاؤل واسع إزاء المستقبل المنظور، بل أصبح الوجوم سيد الموقف. 

إنه فشل الدبلوماسية من جهة، والسياسة الغربية من جهة ثانية؛ كونها داعمة للاحتلال وعاجزة عن اتخاذ موقف إنساني واضح. إن من الصعب التنبّؤ بهذه الجولة من الصراع، وهي الأصعب والأشمل من حيث استعداد العدو لكسر الحدود والخطوط الحمراء كافة، ولكنُ الأمر المؤكد أن ما طرحه نتنياهو وحكومته، وردّده داعموه الغربيون عن عزمه اجتثاث المقاومة الفلسطينية، واستهداف غزة دون رحمة لتحقيق ذلك، لن يتحقق.