أخبار ثقافية

العرفاوي: أولاد أحمد شاعرٌ تحتاجُ الإنسانية المغدورة صوتهُ

بحري العرفاوي: أولادُ أحمد يفيضُ شعرًا وترْكضُ فيه نداءاتُ الإنسان وصرخاتُ المغدورين (أنترنت)

1 ـ "نشيد الأيام الستة" حماقة الاستبداد وذكاء الشاعر

أولاد أحمد عُرِف في أواخر الثمانينات وخاصة حين مُنعت مجموعته الشعرية "نشيد الأيام الستة" من التوزيع، عرف كيف يستحلبُ المنعَ دِعايةً، واشتغلت معه المجموعات الأيديولوجية دفاعا وتعريفا حتى انتبه الناس إلى وجود شاعر كبير تخشاه السلطة الجديدة فكثر التساؤل عن هذا الشاعر وارتفع منسوب الشوق إلى معرفة قصائده، المستبد أحمق دائما لأنه يخشى الأفكار والجمال فيُسارع إلى ممارسة المنع فيرتد عليه صنيعه ويصنع بيديه أبطالا قد لا يكونون حقيقيين ولكنهم في الوعي الجمعي يتحولون إلى قادة رأي عام، مجموعة "نشيد الأيام الستة" هي أول مجموعة شعرية لأولاد أحمد شهدت انتشارا واسعا حين أفرجت عنها الرقابة يومها سنة 1988، تحول أولاد أحمد بعدها إلى شاعر تخطت شهرته شعراء يساريين سابقين من مثل المنصف المزغني والطاهر الهمامي ومختار اللغماني.

2 ـ الابداع الشعري والإتباع الإيديولوجي

ثم كانت "شهرتهُ" حين اصطف إيديولوجيا مع المتجرئين على المقدس!! لم ينس الناسُ نصّهُ بمجلة تونسية يومها يُشبّهُ الصّومعة بالصاروخ الذي لا يطير!! ويُساوي بين حرية الإعلان عن الصلاة عن طريق الآذان ـ قال أزعَجَهُ ـ !! وبين حرية الانتصاب خلف المصدح للإعلان عن الشروع في "التبول" نعم هكذا!!... أولاد أحمد تعمّدَ إيذاءَ الكثيرين في معتقدهم وتطوّع لدورٍ لا أعتقدُ أنهُ من مهام الشعر... ثمة من نصحهُ يومها بأن لا يكون "كبش نطاح"، وثمة أيضًا مِنَ الغاوين مَنْ زيّن لهُ اللعبةَ َ فأغرتهُ... كان حريصًا على أن يكون ضحيّة ً فيُصوّرُ نفسهُ مطلوبًا لجهاتٍ مُعاديةٍ أو مرْصودًا في بيتهِ لا ينظرُ إلا من ثقب القفل!! أوْ مُكَفَّرًا من رجال علمٍ يُسميهم رجالَ دينٍ ويسْخرُ من مقامهم !! 

كان يتمنى الانخراط في لعبة هزلية أمام القضاء مع الشيخ العالمي الدكتور يوسف القرضاوي بعد أن ذكره الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه عن العلمانية في تركيا وتونس واعتبره من الساخرين من الدين.

أولاد أحمد لم يكن ليكون عَدوّا للذين يُعادُونهُ أو يَدفعُهم لمُعاداته، فهُو واحد من  "الضحايا"، ضحايا علاقة غير سليمة بين الثقافي والسياسي.

مُؤلمٌ أنْ يقعَ شاعِرٌ بمُستواه الإبداعي بين غبارِ المُتغالبينَ حين اختلطت السّياسة بالإيديولوجيا وبالمال وأحْكمَ الغالبون قبضتهم على مقبض العصا وعلى مخازن الرزق.

كان لا بُدّ مِنْ أن يُفهمَ جيدًا ـ شعْرًا وإنسانًا ـ ... وكان لا بُدّ من أن ْ يُدْرِكَ حُدودَ الشعْرِ وحُدُودَ الشرِّ... ليس بين الشعر والشرّ سوى "عيْنٍ" لا ندري متى تنضخُ ماءً زلالا لذةً للشاربين، أو متى يسكنُ نضوبَها فحيحُ الزواحفِ مُدرّبة على فنون اللدغ! أولادُ أحمد يفيضُ شعرًا وترْكضُ فيه نداءاتُ الإنسان وصرخاتُ المغدورين... وتضيقُ به مُفرداتُ التشرّد والغرْبَة... هُو ليسَ آمنًا على نفسه منها ولا على لحظته من سابقاتها... والمستقبلُ سؤالٌ: هل الكلماتُ مسؤولة عمّا يكونُ؟! هل الشاعرُ فاقدٌ للأهلية أمامَ التاريخ؟! من قال: أقولها وَ...أمْضِي؟!.

 

أولادُ أحمد يفيضُ شعرًا وترْكضُ فيه نداءاتُ الإنسان وصرخاتُ المغدورين... وتضيقُ به مُفرداتُ التشرّد والغرْبَة..

 



لستُ بصدد الاختلاف ولا الاتفاق مع الشاعر أولاد أحمد ولكنني لا أخفي دفاعًا عنهُ أمامَ أشدّ ما صنعَ من خصومٍ... أدافعُ عن الشاعر فيه وأدفعُ معهُ باتجاه الحياة ... شاعرٌ محْرُورٌ تحتاجُ الإنسانية المغدورة صوتهُ وشلالاتِ مَعانيهِ وجُرْأة تمرّدهِ على المتوحشين يُبْكون الطفولة ويَجْرَحُون الرّوحَ ويُراكمون الخرابَ.
 ناديته مرة: "أيها الشاعرُ المبدعُ أنتَ على حُدودِ النارِ لن تستأذنك ألسنتها في لحْسِ مَنْ وما تحِبْ... أنت على مجرى النهر يغرفُ منهُ المشتاقون والذاهبون إلى الحياة... من حقك أن يكون لك في الوطن مكان، ومن حق الوطن ألا يتسعَ لاتساعِكَ فتهيمُ في الشوق وفي الإنسان وفي كل مكان.... الشاعرُ أكبرُ من الحقدِ ومن الخصُومة ومن اليأس ومن القيد.

ليسَ لك من أعْداء سوى الذين اجتهدت في صُنعهمْ... وكمَا تنسَاهُمْ ينسوْنكَ"

3 ـ وفاة الشاعر وردود فعل المتضررين
                           
أنا أعتقد دائما بكون كل الخصومات مشتركة ولا وجود لخصومة من طرف واحد وليس من الحكمة إلقاء المسؤولية كاملة على طرف وتبرئة غيره من الأطراف.

تذكرت هذا وأنا أتابع ردود الفعل على صفحات الفايسبوك خلال الحديث عن رحيل الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد... فقد أبدى الكثير من جمهور الفضاء الافتراضي الكثير من الغضب والكراهية لهذا الشاعر وبعض التعابير كانت غير مقبولة بكل المقاييس الأخلاقية والدينية بل ثمة من تهجم على من أبّن الفقيد وذكره بخير.

حين نكون قبُالة الموت نكون بصدد لحظة عاطفية إنسانية تقتضي منا الترحم على الميت والاعتبار من حتمية الموت، وتقتضي منا الكف عن كل ممارسات التجريح والتعريض كما تقتضي أيضا الترفع عن أساليب الاستثمار غير اللائق في اللحظة العاطفية تلك، فقد سمعنا بعضهم يتكلم بإطناب عن مناقب الراحل النضالية والفكرية مع أن اللحظة لا تستدعي لا التعريض بتاريخ الراحل ولا الاستثمار فيه استثمارا سياسيا إيديولوجيا.

 

سنحتاج بالتأكيد وقتا أطول لمغالبة النوازع والغرائز من أجل الانتهاء إلى وعي بمفهوم المواطنة ومبدأ "التعارف" حتى لا نظل ندور في وحل الثارات القديمة ومعارك لم ننتج نحن أسبابها ولم نشهد بداياتها...

 



وإننا بقدر رفضنا لردود فعل "الكارهين" للراحل فإننا لا يمكن أن نكتفي بموقف الرفض هذا دون البحث عن الأسباب الكامنة في الخدوش النفسية والكدمات العصبية لدى جمهور كبير من الذين طالتهم آلة القمع فآذتهم في أبدانهم وأرزاقهم وكرامتهم ومشاعرهم الدينية وشردتهم وأخرجتهم من كل مؤسسات الدولة وفضاءاتها ومناشطها وجمعياتها ونقاباتها ووسائل إعلامها... لم يكن لهؤلاء حظ في التعبير عن أنفسهم وإبداعاتهم ومواقفهم ولم يكن مسموحا لهم بممارسة قناعاتهم ومعتقداتهم ولم يكونوا في عداد المواطنين أصلا إنما كانوا يشعرون بالملاحقة الأمنية والملاحقة الثقافية والفكرية من قِبل فئة من الذين اشتغلوا منظرين لسياسة الاستئصال والتجريف والتشويه... 

لقد كانت فئة من "النخبة" متورطة حَدّ الإجرام في أوجاع وأحزان جمهور من التونسيين كبيرٍ... هؤلاء هم الذين لا يجدون اليوم أنفسهم معنيين بتقدير أي شاعر أو مسرحي أو رسام أو روائي أو مخرج أو مغنٍّ ممن نشأوا وترعرعوا واستفادوا من خزينة الدولة ومن قوت المطرودين المطارَدين المقصيين المسلوخين.

لا يكفي لعنُ الظواهر السلبية إنما يجب فهمها والعمل على معالجة أسبابها حتى لا تتكرر وحتى لا يظل مجتمعنا مهددا بالأحقاد والكراهية ومشاعر الشماتة والنكاية.

4 ـ مرض الشاعر وإنسانية السياسي

حين بلغ المرض بالشاعر مبلغه قرر وفد من أكبر رموز حركة النهضة الإسلامية زيارته في بيته كان ذلك يوم 8 نيسان (أبريل) 2016، تلك الزيارة كان لها أثرها الجميل في الشاعر بل وفي الساحة السياسية، حيث أشاعت الكثير من الإطمئنان لدى التونسيين حتى كتب الروائي اليساري عبد الجبار المدوري نصا استحضر فيه جوهر التونسيين الإنساني عند الشدائد وذكر تجربته السجنية مع مناضلي الحركة الإسلامية.

يقول عبد الجبار المدوري: "زيارة وفد من حركة النهضة للشاعر الصغير أولاد أحمد في المستشفى تتنزل في إطار العلاقات الإنسانية بين المختلفين في الرأي وفي التوجهات. فالتونسيون بصفة عامة يتميزون بكونهم يختلفون لكنهم لا يتقاتلون ولا يضمرون الشر لبعضهم البعض ويتآزرون عند المصائب. وأتذكر أنني وفي المرات العديدة التي دخلت فيها السجن بسبب آرائي وأفكاري السياسية كنت دائما أجد في استقبالي مساجين حركة النهضة الذين يرحبون بي ويوفرون لي كل ما أحتاجه في الأيام الأولى وقبل زيارة عائلتي من فرشاة ومعجون أسنان وصابون ومنشفة وشلاكة وغطاء نوم ويدمجوني في الأكل الجماعي معهم ويعطوني الأدوية والقلم والورق ويساعدوني على التأقلم مع أجواء السجن بحكم خبرتهم ويمنعون عني مساجين الحق العام في صورة محاولتهم الاعتداء عليّ. وقد زارني في السجن سنة 2002 بعض المحامين المنتمين لحركة النهضة مثل سمير ديلو. وعندما قمت بإضراب جوع للمطالبة بإطلاق سراحي في نهاية سنة 2002 تكفل مساجين النهضة برعايتي وكانوا يحملونني على أيديهم للمصحة أو للدوش عندما أصبحت غير قادر على المشي بسبب هذا الإضراب".

وأضاف: "حتى خارج السجن لم تكن العلاقات بين حزب العمال وحركة النهضة مقطوعة بل كنا نتبادل الزيارات في الأتراح والأفراح ونتضامن عندما نتعرض لقمع بن علي. 

هذا النوع من التضامن بين المساجين السياسيين لا يتأثر بالاختلافات السياسية مهما بلغت من الحدة لأن المهم هو مواجهة السجان والحفاظ على الوحدة في مواجهته. 

وفي اعتقادي فإن القوى السياسية في تونس مطالبة بترسيخ مبادئ التضامن والتكافل والتآزر بينها عند المرض والمصائب والأزمات وحتى في الأفراح لأن ذلك من شأنه بعث رسائل طمأنة للتونسيين وتحسين صورة السياسي لديهم".

وفي مقابل ذلك لا يمكن إغفال ما بَدَر من بعض الأفراد داخل مقبرة الجلاز وأثناء جنازة الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد، فبدل النظر إلى حضور قياديين كبار من حركة النهضة على أنه سلوك إنساني راق يتعالى عن الأحقاد والخلافات السياسية ويفتح نوافذ للتواصل والتحاور فإن أولئك الأفراد تصرفوا كما لو أنهم في منازلة لعدو بساحة حرب، وهو تصرف لا يليق باللحظة ولا بسمعة تونس التي يتابعها العالم كله وينتظر كيف ستخرج من متاهاتها باتجاه دولة المواطنة والحقوق والعدالة والحرية.

سنحتاج بالتأكيد وقتا أطول لمغالبة النوازع والغرائز من أجل الانتهاء إلى وعي بمفهوم المواطنة ومبدأ "التعارف" حتى لا نظل ندور في وحل الثارات القديمة ومعارك لم ننتج نحن أسبابها ولم نشهد بداياتها... إننا محتاجون إلى عقول مبدعة وإلى صدور رحبة وإلى مثقفين يعتقدون بكون الحياة مدرسة نتدرب فيها على بناء الإنسان السوي... إنسان أقل حقدا وعنفا وكراهية وشماتة وأكثر حبا وتضامنا وتسامحا وإيثارا.