قضايا وآراء

حرية التعبير في الثقافة الغربية وانتقاد إسرائيل

1300x600
ألغيت كلمة رئيسة كانت مقررة للصحفية والمخرجة الأمريكية آبي مارتن في الثامن والعشرين من شباط/ فبراير الحالي، في مؤتمر بجامعة جورجيا الجنوبية، بسبب رفضها التوقيع على تعهد بعدم مقاطعة إسرائيل. وقالت آبي تعليقا على ذلك إن طلب التعهد منها بعدم المشاركة في أنشطة لمقاطعة إسرائيل هو انتهاك لحقها الدستوري في حرية التعبير وحق الاحتجاج، فـ"كيف يمكن لي أن أقبل بالتعهد بإثبات الولاء لدولة أجنبية؟".

وكان مشروع قانون معاداة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (Anti BDS) قد مرر في ولاية جورجيا في عام 2016، وهو ينص على منع الولاية من العمل مع أفراد وشركات يقاطعون دولة الاحتلال. وقد اعتمدت قرارات مشابهة في ثمان وعشرين ولاية أمريكية تستهدف الأفراد والشركات المقاطعين.

أما في أوروبا، فقد اعتمد البرلمان الألماني في أيار/ مايو الماضي، قراراً بتصنيف حركة "BDS" بأنها "معادية للسامية"، وتعهد القرار بـ"عدم تقديم أي دعم مالي للمشروعات التي تنادي بمقاطعة إسرائيل أو المنظمات التي تدعم بشكل نشط حركة المقاطعة الدولية لدولة الاحتلال.

وفي فرنسا، تبنى البرلمان في كانون الأول/ ديسمبر الماضي اقتراحا يضمن معاداة الصهيونية ضمن أشكال معاداة السامية، وهو ما يعني أن أي انتقاد لإسرائيل يمكن تفسيره بأنه مخالف للقانون! رغم أن الأمم المتحدة ذاتها كانت تعد الصهيونية شكلا من أشكال التمييز العنصري قبل مؤتمر مدريد.

هذا التوجه السائد في الساحات الأوروبية والأمريكية خلق مناخا من الإرهاب الفكري في أوساط منظمات المجتمع المدني، التي صارت تخشى من ملاحقتها قانونيا وقطع التمويل عنها إذا أظهرت مواقف صريحة تعلن فيها تأييد مقاطعة دولة الاحتلال.

المقاطعة هي وسيلة لاعنفية للتعبير عن الموقف السياسي، وحركة المقاطعة الدولية (BDS) تستند إلى القانون الدولي في نشاطها، فهي تهدف من خلال عملها إلى تشكيل ضغط عالمي على دولة الاحتلال لإلزامها بتحقيق ثلاثة مطالب، وهي إنهاء الاحتلال الذي بدأته إسرائيل عام 1967، وتطبيق قرار عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم وبلداتهم التي هجروا منها، وإنهاء التمييز العنصري الذي تمارسه دولة الاحتلال ضد مواطنيها غير اليهود.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدالة المطالب التي تناضل حركة المقاطعة من أجلها وكذلك الطابع اللاعنفي لوسائلها، فإن تجريم هذه الحركة من قبل الحكومات والبرلمانات الغربية ومحاكمة نشطائها يمثل انتكاسة حادة لقيم حرية التعبير التي لطالما ادعت الحكومات الغربية قداستها.

إن من التناقضات الفادحة التي تتجلى في السلوك الغربي هو أن قيمة حرية التعبير تتسع لإهانة مقدسات دينية لمئات ملايين البشر، لكنها لا تتسع لانتقاد إسرائيل، وهو ما يعني أن إسرائيل هي الصنم الجديد الذي لا يجوز المساس به والاقتراب منه مهما اقترف من فظاعات وانتهاكات.

التعامل الغربي مع إسرائيل لا يفضح تناقض الحكومات الغربية مع المبادئ العالمية لحقوق الإنسان وحسب، بل يفضح غياب التزام هذه الحكومات مع قيم الدول الغربية ذاتها. ففي الوقت الذي يؤكد فيه الاتحاد الأوروبي على أن المستوطنات التي تنشئها دولة الاحتلال في الضفة هي غير شرعية، فإن بضائع هذه المستوطنات رائجة في السوق الأوروبية.. وفي الوقت الذي يدين فيه الاتحاد الأوروبي قتل المدنيين في الغارات الاسرائيلية على غزة، فإن شركات تصنيع السلاح الاسرائيلية مثل إلبيت (Elbit) تفوز بالتعاقدات مع الاتحاد الأوروبي؛ كون منتجاتها مجربة في المعركة "battle tested"، أي أن قتل المدنيين الفلسطينيين يعطي ميزة تسويقية لشركات إنتاج السلاح الاسرائيلية في السوق الأوروبية.

ووفقا للمفوضية الأوروبية، فإن حجم التبادل التجاري بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي بلغ عام 2017 حوالي 36.2 مليار يورو، بدءا من الخضروات والفواكه وصولا إلى الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية.

هكذا يبدو المشهد سافرا، فلا اعتبار لقيم حقوق الإنسان وحرية التعبير المدعاة، وإنما البحث عن المصالح الاقتصادية، وإن كان ذلك على حساب انتهاك القيم الأخلاقية والتناقض مع المبادئ؛ ليس مبادئ الآخرين وحسب، بل مبادئ الذات الثقافية أيضا.

إن الموقف الغربي من إسرائيل يكشف بقية حقبة الاستعمار والاستعلاء التي لم تطو بعد، وهذا يعني من جهة أخرى أن إسرائيل لا تسبب المآسي في فلسطين وحسب، بل إنها تجعل من العالم كله مكانا أسوأ بدفعه إلى التنكر للمبادئ الأخلاقية. لذلك، فإن النضال ضد نظام الاحتلال والأبارتهايد في فلسطين هو نضال عالمي وليس نضالا محليا وحسب؛ هو نضال بين القوى التي تؤمن بالحقوق والعدل والحرية والمساواة وبين قوى الاستعمار والاستعلاء ولا أخلاقية رأس المال.