قضايا وآراء

الحياة أسمى من الفكر

1300x600
"الحياة أسمى من الفكر".. هي إحدى مقولات علي عزت بيغوفيتش المفتاحية. وقد كان رحمه الله واعيا بمقتضيات مقولته وهو يخطّ كتابه العمدة: "الإسلام بين الشرق والغرب"، الذي أسهم به في تجديد الآلة الكلامية بعد تكلُّسٍ وركودٍ كان كتاب "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" آخر معالمه البارزة في القرن العشرين؛ الكتاب الذي أعاد فيه شيخ الإسلام مصطفى صبري إنتاج المقولات المذهبية والكلامية القديمة، بعد حفنة "تعديلات"؛ ليجعل منها مسخا "عصريا".

وتكمن أهمية جهد بيغوفيتش في أنه لم يكتُب نصا أو متنا كلاميّا حجاجيّا يُفنِّد فيه أقوال المخالفين (وعلى رأسهم ماديّو الغرب) أو يشكل نسقا سكونيّا مضادا، كما فعل صبري؛ بل فكك الأنساق التي قابلته، كاشفا الأدلة؛ ومستعيدا الوحي كمصدر مباشر ومركزي للمقولات الاعتقاديَّة، مع عدم إهدار جهود السابقين، وإن اكتفى بالاسترشاد بها بغير إلزامٍ يُقيّد المسلمين بنسقٍ عقدي وضعيٍ جامد كالأنساق الكلاميَّة؛ الأنساق التي تجعل من العقيدة صنعة لفظيَّة لا أثر لها في القلوب ولا في الحركة.

لقد ترك علي عزت الجدلية مع الوحي منفتحة، ولم يصادِر عليها بفهم جيله، ومن ثم ترك مجال الاجتهاد مفتوحا بعده. وآية ذلك عندي أنه كان يتجنَّب الحكم العقدي على المخالفين. ولأكون أكثر دقة؛ فقد كان يتجنَّب الحكم العقدي السلبي، ولكن ليس على طريقة الغنوصيين الذين يُضفون معنى إيجابيّا على جمهرة الأفعال المحرَّمة شرعا، بل بمحاولة استكشاف مكامن الفطرة وجذور الحق، ولو في الكتابات الإلحادية. ذلك أنه كان يؤمن أشد الإيمان بالحديث القدسي: "خلقت عبادي حنفاء كلهم"(1)، وأن الله هو رب العالمين وخالقهم (مؤمنهم وكافرهم)، ومن ثم فإن كل باطلٍ ينطوي على بعض الحق، وذلك كما يطوي كل حقٍ بعض الباطل؛ بسبب محدودية القدرة البشرية على حمل كلام الله على مراده "النهائي". فليس من ثم معنى نهائي للوحي يدركه بشر مهما كان؛ بل كل يُدرِك حسب حاجته وحسب زمانه وحسب اجتهاده وحسب إيمانه، وإن كان للوحي تعاليم مُحكمة ومقاصِد عُليا ثابتة مُستقرة يتعين على كل مؤمن تعلمها وتمثُّلها، ليصير بها مؤمنا.

لقد تغيّرت نظرتي - مثلا - لأدباء وفلاسفة العبث والتشاؤم بعد قراءة بيغوفيتش. فقد أمسى أمثال: هنريك إبسن، وفريدريش نيتشه، وصمويل بيكت، وألبير كامو، ويوجين أونسكو، وغيرهم؛ أمسوا في عيني عبيدا ضالين بؤساء... عبيدا مُخيبي الرجاء في رحلة بحثهم "العبثية" عن الإله. لقد كانت العقلية الإسلامية التقليدية (مثلها مثل العقليَّة المسيحية!) تعتبر أمثال هؤلاء شياطين مردة، وهو ما لا يُفسِّر شيئا من آلامهم التي يصطليها من يقرأهم بقلب مفتوح. إنها آلام المسخ فرانكنشتاين، الذي ارتبط بالطبيب الأحمق الذي جمع أعضاء جسده، وهو يعلم أنه ليس خالقه، ولا يملك له ضرا ولا نفعا.. آلام التيه الروحي.

ومن ثم، جعلت رؤية بيغوفيتش لمفهوم الاستعلاء بالإيمان عند سيد قطب؛ معنى عمليّا، وهو الاستعلاء بالإيمان على الضلال، لا استعلاء المؤمن على الضال. فالضال عبدٌ لله مثلي؛ خلقه سبحانه وكرمه... بل ويرزقه رغم ضلاله. إن وظيفتي ليست هدايته بـ"القوة"، بل الحرص على هدايته بالحرص على إبلاغه الرسالة، وشتان! إنها وظيفة كل مؤمن في هذا الوجود، فالضال في عين المؤمن ليس عدوا، وإنما هو مؤمن في طور الإمكان، لكن ضلاله هو العدو الحقيقي... والوحيد.

إن الإسلام بهذا الفهم حياة حقيقية، وليس نظريَّة ميتة كما كان قطب رحمه الله يُحذِّر. إنه حياة في كنف المشيئة الإلهية؛ يخالف بعض العبيد محبوبه/ أمره سبحانه، وينسجم آخرون معه، ولكنهم جميعا عبيد خاضعون لله في نهاية المطاف، طوعا أو كرها. إن هذا التجاور/ التعايش في الحياة لا يُسقِط الحدود الشرعية بين الإسلام والكفر؛ بل يُسقِط الحدود النفسيَّة المصطنعة بين المسلم وغير المسلم، ويجعل هداية الكافر/ الضال أحب إلى المسلم من مناظرته وتفنيد أقواله و"الانتصار"اللفظي عليه. وهداية الكافر تبدأ بالحرص على هدايتك لنفسك؛ بالحرص على التزامها الحق ولو خالف ما درجت عليه واشتهرت به.

إن الحياة أسمى من الفكر؛ لأن الوحي الإلهي حياة كاملة، فهو ما تنزَّل إلا ليتجسَّد في أناسي وفي حياة كاملة. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده صحبه، أول تجسُّد حي لهذا الوحي. أما الفكر فمحض إطار نظري جرَّده المفكر/ المثقف من الحياة/ الوحي؛ لتيسير الفهم على بعض المغيَّبين عن الحياة، المولعين بالأطر والسفسطات النظرية.

الحياة أسمى من الفكر: الحياة على مراد الله أشق وأسمى من التنظير للحياة على مراده سبحانه!

__________
(1) عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" (رواه مسلم).