قضايا وآراء

أمن البحر الأحمر: طموح الأغنياء وحاجة الفقراء

1300x600
تكتل دون إقليمي جديد، قد يلحق، خلال هذا العام، بتكتلات وهيئات إقليمية، ودون إقليمية، تعج بها منطقة البحر الأحمر وخليج عدن؛ وفقا لما كشف عنه قبل شهر، البيان الصادر عن الاجتماع، الذي عقده بالرياض في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2018؛ وزراء خارجية سبع دول عربية، هي: السعودية، والأردن، ومصر، والسودان، وجيبوتي، والصومال، واليمن.

وفقا للبيان، يضم هذا التكتل الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر، لكن هذا التوصيف غير دقيق؛ لأن إرتيريا لم تشارك في الاجتماع، وربما لن تشارك في التكتل نفسه، إذ عادة ما تنأى بنفسها عن كثير من التكتلات دون إقليمية، أو تنسحب منها بعد الانضمام إليها. أما إثيوبيا، فمع أنها لم تعد دولة مشاطئة للبحر الأحمر، منذ الاستفتاء على تقرير مصير الشعب الإرتيري عام 1993، إلا أنها تتمتع بحضور بحري لا بأس به، حيث تمتلك أسطولاً من السفن التجارية، وتشارك في حصص استثمارية وتشغيلية في موانئ سودانية وجيبوتية.

في ما يبدو، أن هذا التكتل يحاول، شكلياً، الاقتراب من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث يجمع دوله حوض مائي واحد، وتحديات مشتركة. ويزداد ذلك وضوحا في حال امتناع إثيوبيا وإرتيريا عن الانضمام إليه، لكن طابعه الأمني والعسكري سيكون الأكثر غلبة، ودون إعطاء امتيازات جوهرية لمواطني هذه الدول، على الأقل مثل ما كان يتمتع به مواطنو تكتل "دول مجلس التعاون العربي"، الذي أعلن عنه ببغداد عام 1989، وضم كلا من: مصر، والعراق، والأردن، واليمن (الشمالي).

تحركات الخارجية السعودية، في عهد وزيرها السابق عادل الجبير، وما أثاره في اجتماعات وزراء خارجية الدول العربية في القاهرة، خلال عام 2017، تقود إلى الهدف الحقيقي لهذا التكتل، وهو إعادة تعريف الأمن القومي السعودي، في إطار استغلالي لعوز الأطراف الإقليمية الأخرى، وحشد قواها نحو مواجهة مشتركة إزاء التوغل الإيراني في البحر الأحمر، والذي كانت أبرز مؤشراته بلوغ صواريخ الحوثيين العاصمة الرياض، وضرب المنشآت النفطية بمدينة جيزان الحدودية، والسفن الحربية السعودية المشاركة في الحرب الدائر باليمن منذ مارس/ آذار 2015.

من جانب آخر، يفسر البعض سعي السعودية لإنشاء هذا التكتل، بأنه محاولة للإفلات من قبضة العزلة النفسية، التي تعيشها على خلفية موقف المجتمع الدولي من التصفية الجسدية للصحفي جمال خاشقجي، في قنصليتها بسطنبول، وما قد تسفر عنه عملية السلام في اليمن، من نتائج تقلِّص من نفوذها، في مقابل مكاسب الخصم الإيراني.. لكن هذه الاتجاهات أغفلت تحديات أكبر، تتمثل في التداعيات الداخلية والإقليمية المتوقعة، التي قد تعقب تولي محمد بن سلمان، الحكم رسميا، والتي قد تكون مفتتحا لأزمات سياسية داخل المملكة وفي شبكة تحالفاتها الراهنة.

أما الحديث عن أن هذا التكتل سيعزز فرص السلام، والأمن، والتنمية، وحماية البيئة البحرية، فإن ذلك يفتقر إلى الكثير من الواقعية؛ ذلك أن تكتلات كثيرة تنخرط فيها دول البحر الأحمر، بما فيها السعودية، لم تتمكن حتى الآن من بلوغ الحد الأدنى مما تصبو إليه دولها، ولا أدل عليه من غرق بعض دول التكتل المزمع إنشاؤه في مستنقع النزاعات المسلحة، والاحتجاجات الشعبية المتصاعدة، والفقر، والتخلف، والإرهاب، وتنامي أنشطة القاعدة وداعش، وانتشار القرصنة البحرية، والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، على طول الامتداد البحري، ابتداء من خليجي العقبة والسويس، إلى مضيق هرمز، قناة موزامبيق.

أما أبرز التكتلات دون إقليمية، التي تعج بها المنطقة، فمنها: الهيئة الحكومية للتنمية، أو ما يعرف بدول "إيغاد"، التي تأسست على أنقاض ما عرف بـ"السلطة الحكومية الدولية للإنماء والتصحر"، عام 1996، لتضم في كيانها دول القرن الأفريقي، حسب التوصيف السياسي لا الجغرافي لمفهوم القرن الأفريقي، وهذه الدول هي: السودان، وجنوب السودان، وإثيوبيا، وجيبوتي، والصومال، وكينيا، وأوغندا، ثم إرتيريا التي انسحبت منها وعاودت الانضمام مرة أخرى، فضلا عن الهيئة الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، التي تأسست بموجب اتفاقية إقليمية عام 1982، وتكتل "دول تجمع صنعاء للتعاون"، الذي أعلن عنه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، ثم توقف نشاطه منذ بضع سنوات، وتكتل دول "مدونة سلوك جيبوتي- 2009"، المحدَّثة بموجب تعديل "جدة- 2017"، المتعلقين بالقرصنة، والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية من خلال البحار.

من الأهمية بمكان، الإشارة كذلك إلى أن هذه التكتلات، تتنوع بين أمنية (في إطار مفهوم الأمن الناعم)، وسياسية، وبيئية، واقتصادية. ولا تفوتنا كذلك الإشارة إلى أن أغلب دول البحر الأحمر وخليج عدن، منضوية أساساً في تكتلات أوسع جغرافيا، مثل: جامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، فضلا عن التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، الذي شكلته السعودية بين عشية وضحاها، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، وكل هذه التكتلات تعيش حالة بيات شتوي، فيما تواجه دولها الفقيرة، تحديات سياسية، واقتصادية، وأمنية.

بالعودة إلى التكتل المزمع إنشاؤه، فقد كان الأحرى بالداعين إليه، العمل على تطوير "تعديل جدة- 2017"، إلى اتفاقية تعاون إقليمية؛ لمواجهة التهديدات غير التقليدية في البحر الأحمر وغربي المحيط الهندي، وتوسيع نطاقه الجغرافي ليشمل إيران وباكستان، والهند، وبقية دول الخليج؛ نظرا لوقوعها في دائرة التأثير والتأثر الأمني البحري، والانطلاق نحو عمل تنموي يستغل المحيطات استغلالا مستداما، في إطار ما بات يعرف بالاقتصاد الأزرق (اقتصاد المحيط)، الذي سيوفر الكثير من الموارد المالية وفرص العمل، والرخاء الاقتصادي لحكومات وشعوب الإقليم، ويعزز الأمن القومي والإقليمي، انطلاقا من المفهوم الحديث للأمن، والمرتبط أشد الارتباط بالتنمية، والحرية، والديمقراطية، وعدالة النظم السياسية الحاكمة.

على نحو آخر، ما الذي سيقدمه التكتل المزمع إنشاؤه لدول أطرافه، وللسعودية تحديدا، في سياق مفهوم الأمن الخشن؟

تبدو الإجابة واضحة، ولا حاجة للمزيد من الإسهاب؛ فأغلب هذه الدول تستضيف قواعد عسكرية لقوى دولية وإقليمية عديدة، في ظل اكتظاظ البحر الأحمر وخليج عدن بالأساطيل الحربية الغربية، وتنامي الوجود العسكري الصيني في القرن الإفريقي، وتطلّع كل من الهند وإيران لبلوغ مثل ذلك.

إن السلام والأمن اللذين تتطلع إليهما شعوب الدول الفقيرة في حوض البحر الأحمر وخليج عدن؛ لا ينطلق من حجافل التكتلات السياسية والعسكرية، التي كبلتها بالالتزامات القانونية، والقواعد العسكرية، والاستثمارات المستغلة لعوزها وحاجتها، دون تحقيق مكاسب ملموسة تقابل كل هذا العطاء؛ ولذلك يجب أن تنطلق عملية البحث عن السلام والاستقرار، من دعم مختلف أوجه التنمية في هذه الدول، وتعزيز استقرارها السياسي، وعدم التدخل في شؤونها. وبإمكان السعودية، بوصفها الدولة الأغني، أن تلعب دوراً كبيراً في ذلك، ودون حاجة إلى تكتل جديد، ولن يكون مردود ذلك على أمن هذه الدول فحسب، بل وعلى الأمن الإقليمي والدولي.