قضايا وآراء

مقال الملك عبد الله الثاني الأخير في ميزان مواطن مغترب!

1300x600
كما هي عادة الملك في خطاباته أو مقالاته أو لقاءاته، يؤكد دائما ضرورة النقاش وأهمية الحوار في قضايا الوطن المختلفة، وأولوياته الملحة، وهو ما أشار إليه في مستهل مقاله الأخير حول كارثة البحر الميت، التي أصابت الوطن ففجعته بخطف ما يزيد على عشرين من زهراته وفلذات كبده. وفي هذا الصدد يقول: "لأشجع النقاش البنّاء حول أولوياتنا وقضايانا الوطنية المهمة؛ وهي كثيرة ومتنوعة، وقد سلطت الضوء على عدد منها خلال لقاءاتي المختلفة".

هذا التأكيد في الحقيقة نسمعه كثيرا من الملك، لكن إن ذهبنا نبحث عنه في واقعنا المعاش، لا نكاد نلمس له أثرا إلا النزر اليسير الذي ينحصر في نطاق ضيق، وزاوية بعيدة من زوايا المجتمع مترامي الأطراف. فثمة إهمال واضح لقطاعات واسعة من الشعب الذي تحكمه جلالتكم، ولا يكاد يحظى بشيء من فرص الحوار وإبداء الرأي والنقاش في كثير من القضايا المحلية الداخلية التي تخصه، وإن فعل وتجرأ على إبداء رأيه لا يسمعه أحد. ولعل تشكيل الحكومات وما يصاحبها من انتقادات واعتراضات واحتجاجات واسعة جدا، وبشكل واضح وجلي، يؤكد رفض الشعب بمختلف قطاعاته وفئاته ومؤسساته وأحزابه لنهج تشكيل الحكومات، التي لا تلبث غير يسير حتى تجري لها عمليات التجميل التي تدعى تعديلات، والتي تزيدها في العادة قبحا وبشاعة، مما يؤكد أن شعبكم محق في اعتراضه وانتقاده لهذا النهج، غير أن استمراركم في النهج ذاته بتشكيل الحكومات، يؤكد أن مطالبتكم شعبكم بالنقاش والحوار مطالبة لا معنى لها، وقد بات يراها مطالبة فارغة من مضمونها.

وعليه يا جلالة الملك، لا بد من بحث جاد عن آلية تترجم هذه المطالبة، وتحقق سبل الوصول إليها، بكل صدق وشفافية، في كل القضايا الملحة التي باتت تشكل عبئا ثقيلا على كاهل شعبكم، خاصة عبء "الفساد"، الذي بات شعبكم يدفع ثمنه باهظا ليس فقط من قوت أبنائه، بل ها هو يقدمها اليوم من روح فلذات أكبادهم.

إن الأردنيين الذين تفاخر بانتمائهم الصادق لوطنهم، والتفافهم حوله، محافظة على أمنه ووحدته واستقراره، وتمسكا بالقيم الراسخة التي تشكل درعا واقيا للوطن فتصنع هيبته وصلابته، فوقف بثبات في وجه الصعاب والمحن. إنهم اليوم يبحثون عن أي فرصة لمغادرة هذا الوطن الجميل، الذي شوهته نتوءات الفساد والفاسدين، واللجوء طوعا لأي بلد آخر يستوعب طموحاتهم وتطلعاتهم، ويحققون فيه قدرا من العيش الذي يخلصهم من عبء الحياة، التي باتت متطلباتها ثقيلة الوطأة على مواطنكم.

إن الأردنيين اليوم، وقد برهنوا في كل المنعطفات الحادة التي تمر فيها الأوطان (بشهادة جلالتكم) على صدق مواطنتهم، ونبل أخلاقهم، وعلو همتهم، بحاجة لمن يخفف عنهم الأعباء، ويرفع عن كاهلهم الأثقال، لا لمن يزيد همومهم بضرائب تفترس ما تبقى من انتمائهم الصادق، ولا أقول من رواتبهم الضئيلة المتآكلة.

جلالة الملك،

ليست مشكلة الأردن والأردنيين في منصات التواصل الاجتماعي، ولن تكون هذه المنصات بأي شكل من الأشكال سببا في خلخلة مرساته، وتقطيع أوصاله، وتفكيك وحدته، حتى تستحوذ بهذا القدر على اهتمام جلالتكم هذا. فمهما كتب في هذه المنصات، ومهما بلغت فيها درجة الإساءة اللفظية، ومهما حشد فيها من ألفاظ التجريح والكراهية والمعلومات المضللة، ستبقى محدودة الأثر، لا اعتبار لها ولا وزن. إن ما يستحق من جلالتكم الوقوف عنده طويلا ليست هذه المنصات، بل منصات الوطن الرائدة التربوية والتعليمية، والأخلاقية، والعمل على تفعيلها، وتمتينها وترشيدها وإعادة ترتيب أولوياتها، واختيار الأكفاء لإدارتها وقيادتها، حتى تزود الوطن بكفاءات محصنة في مختلف الميادين الوطنية السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها. فمنصات التواصل الاجتماعي في العالم الأزرق تعكس جزءا بسيطا جدا من حقيقة ما آلت إليه منصات عالمنا المعاش حقيقة وواقعا، الذي وصل باعتقادي اللون الأحمر القاني، لشدة خطورته.

منصات التواصل الاجتماعي، وإن كانت تشكل خطورة لا نقلل من شأنها، إلا أنها ذات أثر محدود جدا، ولا يكاد يذكر؛ إن ذكر الأثر الناتج عن فساد كثير من المسؤولين في مختلف المواقع للأسف، التي تكشفت منها جوانب كثيرة، في قضايا متعددة، طالت مختلف مؤسسات الوطن، التربوية والتعليمية، والإعلامية، والسياسية، والاقتصادية والأمنية. هذا في الحقيقة ما يستدعي من جلالتكم وقفة طويلة وحاسمة، يلمس المواطنون أثرها، ويرون بأم أعينهم نتائجها. حتى الآن لم يحظ الأردنيون برؤية فاسد كبير يدفع ثمن فساده، حتى باتوا يتندرون بوجود فساد بلا فاسدين. فالكل يجمع على وجوده، ويلمس أثره، ويشاهد آثاره، ويعلم كثيرا من تفاصيله، لكن تنتهي مشاهد الفساد غالبا ببراءة المتهمين، وليس بنفي الواقعة، حتى إن مجلس الأمة، في أحد فصوله (مع العلم أن الشعب يعتقد أنه بلا مجلس يسند إليه ظهره) قد شارك في زفة التبرئة.

جلالة الملك،

طالما قلنا إن الإصلاح الأخلاقي، والإصلاح الاقتصادي، والخروج بالوطن سالما من مآزقه لا يكون إلا بإصلاح سياسي حقيقي، تعدل فيه القوانين التي تفرز المجالس النيابية، وتتشكل على أساسها الحكومات، وتحدد بموجبها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فما دمتم تتجاهلون هذا المطلب الملح لشعبكم، الذي تعبر عنه مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته، من أحزاب ونقابات وغيرها بشكل تفصيلي، فسنبقى ننتظر المزيد من المشكلات والهموم المقلقة لنا جميعا، وما نخشاه أن يتسع الخرق على الراقع.

جلالة الملك،

غياب العدل، وعدم المساواة، وانتشار المحاباة، والكيل بعدة مكاييل، والظلم، هو ما نخشاه على وطننا، وأمتنا، ومجتمع غابت عنه معاني العدل والمساواة، يُخشى عليه فعلا من انتشار أجواء السلبية والإحباط والتشاؤم والفشل والريبة، مما يمهد سبل انتشار الشائعات التي تأتي على أخضر الأوطان ويابسها، ولا يقع مجتمع فريسة في شباك الإشاعة، إلا مجتمع وهنت عراه الأخلاقية، وفسدت روابطه الاجتماعية، وانتشرت فيه الرذيلة، ومهدت فيه سبل الفساد، وتقدم فيه من حقه التأخير، وسدت الأبواب فيه في وجه من حقه التقدم والتصدر، لكفاءته وقوته وأمانته، والأمثلة أكثر من أن تحصى، فما أكثر الذين غادرونا بصمت، دون ضجيج؛ لأنه على خلق كبير، غادرونا لتجاهلهم وإهمالهم، وقد تم تقديم من هم دونهم كفاءة ومنزلة. هذا ما يجب أن نخشاه حقيقة على مجتمعنا، هؤلاء العابثون في مقدرات الأمة هم من يجب أن نخشاهم، أما أولئك الذين يختبئون خلف شاشاتهم، فلا أظن أنهم يستحقون ذكرا إن أحسنا صنعا، وأقمنا الأمور على الجادة الحقيقية. أما أننا دولة قانون ومؤسسات، فهذا ما يتمناه بصدق وحرقة كل مواطن مخلص وصادق في انتمائه.

نعم، لقد أصبحت الحاجة ملحة اليوم لتطوير تشريعاتنا الوطنية، لصون حرية التعبير، وحماية الحقوق، واحترام المواطن وخدمته، ومحاسبة المقصرين، وتفعيل القانون، ومحاكمة الفاسدين، والقضاء على المحسوبية والواسطة والشللية، ودعم حق الحصول على المعلومة الصحيحة من مصدرها، وتشجيع النابهين من المبدعين الشباب في تخصصاتهم، وتبني ذوي المهارات وتنمية مهاراتهم، وتأسيس المراكز الوطنية الجادة التي تبني الإنسان وتصقل مهاراته، وترتقي بطموحاته، وترعى خطواته.

نعم، لقد أصبحت الحاجة ملحة اليوم لتطوير تشريعاتنا الوطنية التي تضمن مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء، ووضع الأمور في نصابها؛ لأن استغلال المنصات الوظيفية اليوم أخطر بكثير من استغلال المنصات الاجتماعية في العالم الافتراضي.

نعم، لقد أصبحت الحاجة ملحة اليوم (والدولة تقف على عتبات مئوية التأسيس) لتطوير تشريعاتنا الوطنية.

ختاما، جلالة الملك، إن ما يهم شعبكم، ليس ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا أولئك الذين يجلسون وراء شاشاتهم، لنشر الإشاعات والأكاذيب، أو للشتم والسباب لبث أجواء الحقد والكراهية، وخدمة أجندات خارجية، هؤلاء ليسوا من ضمن اهتمامات شعبك، إن ما يهم شعبك أن ينام وهو مطمئن أن دولته وفرت له المسكن المناسب الكريم، والفرصة المناسبة في العمل، والمداواة والعلاج إن مرض هو أو من يعول، وأن دولته أمنت مقعدا لدراسة ابنه في الجامعة، وأن دولته لا تألو جهدها في تقديم الخدمات اللازمة لحياة آمنة، ولا أقول مرفهة، فقط آمنة يظللها القانون العادل.

* * *

يؤسفني يا جلالة الملك أن أخاطبكم اليوم من خارج حدود وطني، ليس لأني زاهد في محبته، أو في الإقامة فيه، بل لأني مواطن لم أجد في وطني ركنا آوي إليه، بعد أن ضاقت الأجهزة الأمنية بي ذرعا، فحاصرتني في لقمة عيش أولادي، لأنني باختصار ارتكبت جريمة الانتماء الحزبي في وطني، وبهذه المناسبة أتمنى بصدق أن نكون دولة قانون ومؤسسات، حتى لا أضطر للهجرة أو التوقيف في مطار بلدي، ودمتم ودام الوطن بخير.