كتاب عربي 21

الإسرائيلي والحاكم العربي إذا قتلا.. وجنودهما

1300x600
إذا تمكّنا من تفسير قدرة الحكام على القتل، قتل من يعارضه أدنى معارضة، فيظلّ تفسير امتثال جنوده للأمر، دون تأنيب ضمير، أو بتطوّع، أو بسعادة.. يظلّ تفسير ذلك أكثر صعوبة، إذ يفترض فيهم أنهم لا يدركون الوجه المسوّغ لهذا القتل بالقدر الذي يدركه الحاكم، ولا سيما إن كان محض احتياج نفسيّ للحاكم، وإذا أمكن فهم السبب الذي يعدّ به الحاكم أي معارض له عدوّا، فالأصل أن جنديّ الحاكم يرى في هذا الشخص مثيلا باعتباره ابن اللحم والدم والأرض.

ولهذا، يصعب تفسير ذلك الارتياح الذي يتبدّى سعادة ورضى في عناصر الفرقة التي قتلت جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، والذي ارتسمت على وجوه بعضهم ضحكات واسعة، كما ظهر لدى بعض آخر منهم في مكافأتهم لأنفسهم بالطعام والشراب مباشرة بعد عملية القتل. والحاصل، أنّه وفي واقع الحال، أنّ الجندي هنا كالحاكم، وليس عبدا مأمورا كما اعتاد الناس أن يقولوا، وهو ما يذكّر بقوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ"..

ولكن السؤال عن الحاكم لا ينعدم، فلماذا يقتل الحاكم العربي معارضا، أو مخالفا له في الرأي، أو ناصحا له دون معارضة تامّة؟ هل يمكن أن نقول إن الحاكم يغتال معارضيه، ويرسل خلفهم في بلاد العالم فرق الموت، تماما كما تفعل "إسرائيل" مع المناضلين الفلسطينيين؟ بالتأكيد صور فريق القتل السعودي ذكّرت بفريق القتل الإسرائيلي الذي تتبع الشهيد الفلسطيني محمود المبحوح في دبي، مع فارق الحرفية طبعا.

هنا فارق جوهري، فالخلاف بين "إسرائيل" وبين المناضلين الذي يقاتلون ضدّها هو خلاف جذري؛ كثيرا ما يُعبّر عنه بأنه صراع وجوديّ، فالوجود الإسرائيلي نفسه، لا سياسات "إسرائيل" ولا إجرامها ولا طغيانها ولا تمييزها العنصري، هذا الوجود في أصله يفتقر إلى الشرعية، وإلى المبرر التاريخي والجغرافي والإنساني.. دولة مصطنعة بالكامل، ولا تستند في ذلك إلا للقوة الغربية السافرة، والخرافة التي لا وزن لها دون تلك القوّة.. دولة حلّت بالكامل (متسلّحة بشعب مصطنع، وسرديّة مختلقة)، مكان شعب اقتلع اقتلاعا وسُرق منه كل إرثه الطبيعي المنحدر سلفا إلى خلف، بما في ذلك أديان وحكايات وأساطير كل من نبت في هذه البلاد نبتا طبيعيّا منذ فجر التاريخ.

حتى المناضل الفلسطيني الذي آل به الأمر في ساعة يأس وشعور بالخذلان وتسليم لموازين القوى الظالمة.. آل به إلى مسعى التسوية مع الاحتلال، يدرك بكل ما أوتي من قوى الإدراك، أن هذه الدولة التي يسعى للتسوية معها خاوية على الزيف والخرافة والأكاذيب المهينة للإنسانية، فيكنّ في نفسه دائما أن الصراع الوجوديّ حاضر بانتظار تحوّل في موازين القوى، بيد أن الأمر لا يتوقف على الفلسطينيين، فـ"إسرائيل" نفسها ترسل فرقها للقتل في هذا العالم الواسع؛ لأنّها هي بدورها أيضا تدرك أن وجودها لا يحتمل أي قدر من النضال، فهي تعلم أكثر من غيرها أنها اضطرت ذات مرة لاختراع أكذوبة تغطي بها على زيفها؛ تقول فيها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

لا تعاقب "إسرائيل" الفلسطينيين بالقتل لأنهم يقاتلونها، أو يعارضون وجودها، فحسب، بل لأنها تدرك أنه لا يمكن تقاسم التاريخ والجغرافيا والموروث مع الصاحب الفعلي لذلك كلّه، في حالة كالحالة الفلسطينية، إذ إنّ الفلسطينيين لم يفنوا، ولم ينسوا، ولم يكلّوا عن النضال، ومن خلفهم وحولهم بحور من العرب والمسلمين، تدرك "إسرائيل" أنها حالة فاحشة من اللصوصية، والصراع بين اللص والمالك الأصلي صراع صفري إن تمسك الأخير بحقه. وطبيعة الحالة الفلسطينية نفسها تجعل من مسألة التسوية بتنازل المالك الأصلي عن جزء من حقه أمرا محالا، فـ"إسرائيل" تقتل حماية لوجودها.

في المقابل، تبدو المعارضات الجذرية في المجال العربي محدودة وضيقة، فأكثر القوى الوازنة أرادت التغيير من داخل الدولة نفسها، بمعنى أنها باتت تعترف بشرعية الدولة من حيث هي، وهو الأمر الذي انسحب على موقفها من الأنظمة الحاكمة التي تدير الدولة وتجعلها نسخة منها. فمجرد الاعتراف بالدولة والسعي للعمل من داخلها، يليّن بالضرورة الموقف من النظام الحاكم. وبكلمة أخرى، فإنّ المعارضات الوازنة في البلاد العربية لا تنظر، أو لم تعد تنظر، إلى خلافها مع الأنظمة الحاكمة على أنه خلاف وجودي، بل هو خلاف نسبي. فالتحوير الذي حصل في أدوات وأساليب هذه الجماعات أفضى إلى تحوير في الأفكار الأساسية، فباتت تقبل الدولة ومنطق عملها الجاري قبولا مبدئيّا.

وطالما أنّ الأمر كذلك، فلماذا يقتل الحاكم العربي، وكأنّ المعارض هو عدوّ له، مع أنّ هذه المعارض لا يرى في الحاكم عدوّه؟ وبتعبير آخر، لماذا يتصرف الحاكم العربي وكأنه إسرائيلي، بينما لا يتصرف المعارض العربي وكأنه مناضل فلسطيني؟ بل ويبدو النازع للإصلاح في بعض البلاد - كما هو في بلاد الخليج عموما - أبعد ما يكون عن التفكير في المعارضة بمعناها السياسي، فلماذا يلاحقه الحاكم قتلا أو سجنا في أحسن أحواله؟!

ثمة نقطة أخرى هنا، وهي أن الجندي الإسرائيلي مصطنع كدولته تماما، بلا امتداد في التاريخ ولا جذور في الجغرافيا ولا التحام مع المحيط، هو جزء عضويّ من الدولة، فإذا قتل وهو مرتاح فهو مدرك تماما للأسباب التي تدفعه للقتل.. إنه يدافع عن وجوده، وهذا الوجود يتعمق شعوره به بالنظام الديمقراطي في دولته. ومع ذلك، فقد تجد من بعض القتلة الإسرائيليين تأنيب ضمير، يدفع بعضهم للرحيل عن البلاد، أو معارضة سياسات حكومته، أو الامتناع عن الخدمة في الجيش، بل تجد تحوّلا في الموقف من الفلسطيني حتى عند بعض قادة القتل الذين ينزعون للتسوية مع الفلسطينيين، مع أنهم كانوا قادة في الجيش أو أجهزة المخابرات!

الجندي العربي يُفترض أنه لا يعاني من أزمة وجودية، فليس ثمة شك في انبثاقه عن الأرض وتاريخها انبثاقا طبيعيّا، فلماذا يقتل وهو مرتاح معارضا مسكينا، أو صاحب رأي فارّا بقلمه؟! لا جواب على ذلك إلا لأنّه صار لا يدرك وجوده إلا من خلال وجود الحاكم، وهذا من أوضع أشكال العبودية الاختيارية وانطماس البصيرة، ولا سيما في البلاد التي تنمحي فيها الحدود تماما بين الحاكم والوطن!

لكن لماذا يقتل الحاكم ابن شعبه، وكأن الحاكم إسرائيلي وابن الشعب مناضل فلسطيني، مع أنه لا يرى نفسه كذلك؟ ليس من جواب على ذلك، إلا لأن الحاكم يرى نفسه إسرائيليّا بالمعنى، أيّ يدرك في أعماقه أنه محتلّ باعتبار مصادرته الشعب والأرض والثروات، فتصير من طرفه علاقته بشعبه علاقة صفرية، وتصبح أي نافذة يتنفس منها الشعب قدرا من الحرية والوعي السياسي خطرا وجوديّا عليه، فيستنسخ ممارسات "إسرائيل" بعينها: تهجيرا واسعا في سوريا يستند إلى آلة قتل عمياء، وسحقا للناس في الشوارع والسجون في مصر، وقتلا للناس وتغييب لهم في السجون بلا أدنى سبب، ولو لمجرد التخوف من شهرة إنسان.

وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ وأن تكون "إسرائيل" أقرب إلى الحاكم العربي من شعبه، فالطيور على أشكالها تقع، وحتى "إسرائيل" صارت تتعلم من الأنظمة العربية، وتعتقل على مجرد منشور على موقع "فيسبوك"!