قضايا وآراء

الأسرار المهمة في خطاب أردوغان

1300x600
في حالة من الترقب العالمي لخطاب الرئيس التركي أردوغان الثلاثاء، انتظر العالم تفاصيل أكثر مما يعرفها الجميع عبر التسريبات التي سبقت الخطاب بأيام، ولرفع سقف التوقعات التي وضعها الجميع من الخطاب الرئاسي، فلم ينتبه المتابعون لخطورة ما ذكره الرئيس التركي خلال خطابه المقتضب، والذي بدأه بذكر إنجازاته وإنجازات حزبه مع علمه بمتابعة العالم له.

البيان الرسمي الأول

بلغ حد التسريبات، منذ اللحظة الأولى للإبلاغ عن اختفاء شهيد الكلمة الصحفي جمال خاشقجي، درجة لم تنلها قضية مماثلة من قبل، وزخما لم تحظ به قضايا أكثر من تلك وحشية وحجما، ومع ذلك، وقفت جميعها في حدود التسريبات غير الرسمية، والتوقعات، والتحليلات، في حين أن خطاب أردوغان تتمثل أهميته في أنه أول خطاب رسمي موجه للعالم. وقد حمل الخطاب، على قلة ما نتوقعه، إشارات واتهامات خطيرة موجهة لمعنيين قد نستطيع استشفافهم ضمنا من خلال استقراء الخطاب.

فالتسريبات التي كنا نسمعها ونتابعها يوميا صارت اليوم واقعا رسميا أمام العالم، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا قيمة لأي تسريب دون إضفاء صفة رسمية عليه من النظام، والخطاب قدم تلك الرسمية وذلك في القضايا العامة والدولية له ما بعده، فهو يضع المجتمع الدولي أمام جريمة انتهاك لقوانينه الدولية وعليه أن يتصدى لمسؤوليته، بل إن أردوغان قاد ببراعة عملية تحويل القضية من المستوى التركي السعودي للمستوى العالمي، كما سنرى فيما بعد.

أهم الإشارات في الخطاب التركي

وبما أن خطاب اليوم قد أثار موجة من الغضب والاستياء الشعبي العربي على وجه الخصوص، فقد وجب توضيح تلك الرسائل الواضحة، خاصة لأولئك المتورطين في القضية، ومنهم دول أجنبية، كما أشار الخطاب صراحة. وسأحاول في عجالة ذكر بعض تلك الإشارات التي أراها أهم من كل التسريبات السابقة، والتي بنينا عليها توقعات خيالية تصور النظام التركي وكأنه الساحر العالمي الذي سينقذ كل المظلومين في الأرض ويغرق الأنظمة الفاسدة بقرار؛ لمجرد وقوع جريمة قتل في قنصلية تقع في بلاده، ومن أهم تل الإشارات:

أولا: توجيه التهمة بشكل مباشر للنظام السعودي، فالرئيس التركي قال إنه من غير المقبول إلقاء تبعة الجريمة على الجهاز الأمني السعودي، حتى لو تمت محاكمة نائب رئيس جهاز الاستخبارات، أو رئيسه، وذلك الجهاز هو أعلى سلطة أمنية في البلاد وتتبع بشكل مباشر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وقد صرح الخطاب ضمنا بأن الجهاز الأمني لن يتحرك بمفرده، ولن ينفذ جريمة بهذا الحجم في شخصية معروفة دوليا وبتلك البشاعة إلا باتفاق مسبق مع قيادته، بل وبأمر مباشر منها. وتلك الإشارة أو الرسالة سيتلقفها العالم ويبني عليها قراره الذي أراه سيكون ضخما وموجعا، على الأقل منع تصدير السلاح أو الحظر الاقتصادي الجزئي؛ حتى تتحقق العدالة كاملة بعزل ولي العهد أو محاكمته.

ويجب هنا أيضا أن نؤكد أن الخطاب لأول مرة يكون رسميا ومن قيادة بحجم أردوغان، فتلقّيه بالتالي عند الأنظمة سيكون بصورة أخرى غير التي تلقيناها في بلادنا. والمسؤول له اعتبارات أخرى في إلقاء التهم ولعب السياسة بشكل صحيح، وحين يوجه أردوغان خطابه للملك سلمان ويطالبه بأن يحكم العقل والمصلحة بكشف الحقيقة، فكأنه يبلغه بأن الحقيقة كاملة لديه ويجب على الملك أن لا يكذب أو يتستر على الكاذبين أو المجرمين. ودعونا لا نلقي بالا لجملة الرجاء والتمني، فتلك لغة دبلوماسية تنطوي على توجيه شديد لإدارة الملك سلمان بالتخلص من ابنه قبل أن تنكشف الحقيقة المعروفة كاملة، لتجنيب المملكة والبلاد المقدسة حربا لا قبل لها بها. فربما تكون تلك هي الفرصة الوحيدة المتبقية لإنقاذ حكم آل سعود من حصار عالمي إذا أعلنت الحقائق كاملة، وهنا يتصرف أردوغان بصفة مسؤول مسلم يحافظ على مقدساته الإسلامية وتاريخه الإسلامي، وليس كصائد أخطاء أو تاجر يبيع الحقيقة، كما يفعل نظيره الأمريكي.

ثانيا: بيّن أردوغان في خطابه أن الجريمة أعد لها مسبقا، وأن من تورط فيها ليس أفرادا ولا نظاما واحدا، وإنما قد يكون متورطا بها دول أجنبية، فهل كان يقصد بتلك الدول أمريكا مثلا؟ هل كان يقصد بها الإمارات؟ تلك الرسالة الواضحة تمثل رسالة الرعب لمن تورط بالفعل، وستدفع الجاني للحركة ورد الفعل الناجم عن انكشافه لدى الإدارة التركية، وربما تعلم الدول الأوروبية من هي الأنظمة الأجنبية المتورطة في الجريمة، وربما لا تعلم، لكن الرسالة وصلت للجميع بأن تركيا هي من كانت مستهدفة وليس فقط الشهيد خاشقجي. وأتوقع أن يكون رد فعل تلك الدول المعنية أن تتبرأ أو تضغط على ابن سلمان، ليقف وحده مع الحقيقة عاريا، وليقف الملك سلمان بين خيارين: إما أن ينقذ حكم أسرته من نهاية محققة بإيقاعها في صراع عالمي، أو أن يقوم بعمل تغييرات جذرية بتغيير ولي العهد وتقديم إصلاحات فعلية أمام المجتمع الدولي؛ ليثبت براءته كرأس للحكم من تلك الفعلة، أو أن يتحدى ليقع فريسة للخلاص منه عالميا بحرب حصار قد تودي بحكمه غير المرغوب فيه داخليا وخارجيا، لنشره حالة الرعب والفزع داخل المملكة باعتقاله العلماء والمعارضين ومنع ذويهم من السفر لتتحول المملكة لسجن كبير، وبهذا يكون أردوغان قد وضع الجميع أمام القطار، وإما أن يتوقف القطار حتى لا يدهسهم، أو يفروا هم هاربين من طريقه، أو الموت المحقق.

ثالثا: أين الجثة؟ هل جثة الشهيد بين يدي النظام التركي الآن؟ أم أنها قد وزعت بعد تقطيعها على عدة دول (تلك الدول المتورطة كما أشير)؟ الحقيقة أنه أصبح لزاما على السعودية بعدما اعترفت رسميا بأنها قامت بالقتل داخل أروقة القنصلية أن تقدم الجثة وتدل عليها، وليس لزاما على تركيا، وبما أن التصريحات الرسمية السعودية أدلت بأن الجثة تم تسليمها لمتعهد، فقد أصبح لزاما كذلك عليها أن تدل على ذلك المتعهد الذي قد يكون شخصا يقوم بالدفن أو التخلص من قتلى تجندهم المملكة، وقد يكون نظاما آخر شارك بالجريمة وقام بإخفاء معالمها توريطا لتركيا وخلاصا من قلم حر.

إن ما حدث ليس جريمة عادية تنتهي فصولها في خطاب، وإنما هي جريمة سياسية وإنسانية ودولية.. قضية رأي عام عالمي قد تطيح فيها أنظمة كبرى، وعلينا أن نصبر على تركيا التي تتحرك وحدها في هذا المضمار متحملة عبء تخلف المنطقة العربية وحكامها المستبدين، ومتحملة كذلك حربا شبه عالمية على رئيسها الحر الذي تحدى العالم في استضافته لكل المظلومين، ونقل بلاده نقلة نوعية جعلته مستهدفا من كل حقراء الأرض.

إن على الشعوب العربية أن تعي أن أردوغان يعمل بمفرده، وأنه ليس ساحرا، وعليه أن يتوخى الحذر ويمارس السياسة على مستوى عال جدا من الحكمة، مراعيا سلامة بلاده، غير متخل عن القيم والمبادئ التي بات لا يعرفها العالم اليوم في مقابل المال والنفط.

على العالم العربي أن أردوغان لن يقوم بتحريره، ولن يقوم بإزالة أنظمته، ولن يقوم بتحقيق أحلامه، بينما هو يجلس في مقاعد المشاهدين. أعان الله الرجل الذي أراه موفقا، ووفق الشعوب العربية لصحوة تجتث بها جذور الخبث القابعة على كراسي الحكم.