قضايا وآراء

قراءة في المقاربة التركية لقضية خاشقجي

1300x600
بدت المقاربة التركية لقضية جمال خاشقجي منذ اليوم الأول لاختفائه واضحة المعالم، مع سعي وحرص على البقاء في المربع المؤسساتي الرسمي الدبلوماسي القضائي، وتأكيد مستمر على أن أنقرة ليست في حالة عداء مع الرياض، وأنها ليس بوارد الدخول في أي معركة سياسية أو إعلامية معها، بل على العكس، حريصة على مواصلة العلاقات التاريخية المستندة إلى قواسم مشتركة عديدة معها.

التسريبات التركية المتعلقة بالقضية كانت ذات هدف مزدوج وبعدين، تركي سعودي، وتركي دولي، حيث تمثل البعد الثنائي بدفع الرياض للتعاون مع أنقرة، أما الدولي فسعى الى دفع الغرب للضغط على الرياض من أجل هذا التعاون، وربما أيضاً كان سعي غير مباشر لإضعاف سياسي محسوب للقيادة السعودية، تحديداً في سياساتها الإقليمية المتهورة، والتي أثّرت سلبياً ولو بشكل محدود على المصالح التركية في سوريا، وتحديداً التي تعتبر مهمة جدّاً للأمن القومي والمصالح الحيوية للبلاد.

إذن، منذ مساء الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر، أي منذ الإعلان عن اختفاء جمال خاشقجي، تحركت السلطات التركية في السياق القانوني القضائي المتبع في البلد، دون تسييس أو إصدار أحكام مسبقة، وباشرت الجهات المعنية عملها طلبت التعاون من السلطات السعودية، وطلبت تفتيش القنصلية كونها آخر مكان ظهر فيه جمال بشكل علني، كما مارست الأجهزة الأمنية تحرياتها عن كل ما جرى في القنصلية قبل دخول جمال وبعده، دون توجيه أي اتهامات لأحد، ودون تسييس للتحقيق أو للمقاربة التركية تجاه القضية، حيث أن القيادة السياسية المتمثلة بالرئيس أردوغان وكبار وزرائه ومعاونيه؛ كانوا حريصين على عدم إصدار أي أحكام مسبقة على عدم استباق نتائج التحقيق، بل أظهروا حالة من الصبر الحكمة وثبات الأعصاب الضرورية للانتظار، إلى حين الوصول إلى معطيات أو نتائج صلبة وراسخة وغير قابلة للتشكيك.

القيادة السياسية اكتفت بطلب التعاون والتجاوب من الرياض وسفارتها في أنقرة وقنصليتها في إسطنبول مع الجهات التركية المعنية بالتحقيق، وعندما لم يحدث، تذمر وزير الخارجية تشاويش أوغلو علناً من التلكؤ السعودي، وهو نفس ما فعله الرئيس أردوغان عبر استهجانه العلني لتصرف القنصل السعودي المستفز وغير المبرر؛ عند استقباله لمراسل وكالة رويتزر وفتح مرافق القنصلية أمامه، قبل أن يفعل ذلك مع جهات التحقيق التركية.

التسريبات التركية التي صدرت عن مصادر أمنية، وحتى سياسية غير معروفة، ولكن على علاقة ما بالتحقيق، هدفت - كما قلنا سابقاً - إلى تحقيق أمرين: دفع الرياض للتعاون، والأهم تقديم روايتها للقضية ولما جرى؛ مقابل الروايات التي تنشرها الصحف ووسائل الإعلام التركية والأجنبية. وهنا يجب الانتباه إلى أن رد الفعل السعودي كان مرتبطا دائماً بالفعل أو المبادرة التركية. والاتصال الأول بين الرئيس أردوغان والملك سلمان أدى مباشرة إلى إرسال الرياض وفدا للتحقيق المشترك مع الجهات التركية المعنية، كما الموافقة على تفتيش القنصلية (وبيت القنصل)، بعد إقالته طبعا، أما الاتصال الثاني بعده بأسبوع، وتحديداً مساء الجمعة الماضي، فقد أدى مباشرة وبعد ساعات منه إلى تقديم الرياض روايتها الأولى للقضية، والتي جاءت جزئية منقوصة وغير صحيحة طبعاً، إلا أنها مثلت انخراطاً سعودياً في الجهود التركية، وإقرارا بقتل جمال والتراجع عن رواية أنه خرج سالماً من القنصلية.

التسريبات للجهات الأجنبية كان تهدف من جهة إلى عدم الصدام المباشر مع الرياض، من جهة أخرى إلى إبقاء القضية حية في الساحة السياسية الإعلامية الغربية القادرة فعلاً، خاصة الأمريكية على الضغط على السعودية للتعاون والإفصاح عما جرى مع خاشقجي في القنصلية، وأعتقد أنه كان من الصعب تصور تجاوب الرياض دون هذا الضغط الغربي الأمريكي تحديداً، حتى لو كان هذا التجاوب جزئيا وغير كامل لم يطرح حتى الآن الرواية الكاملة والصحيحة لما جرى في القنصلية ظهر الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.

لا شك في أن خطاب الرئيس أردوغان ظهر أمس الثلاثاء قدّم صورة وافية واضحة عن المقاربة التركية لقضية خاشقجي، إلا أن الناطق الرئاسي إبراهيم كالن كان قد فعل الشيء نفسه وبشكل مرّكز ومختصر مساء الاثنين الماضي، بعد الاجتماع الأسبوعي للحكومة التركية.

كالن قال إن تركيا معنية بالتحقيق حسب القوانين الدولية والوطنية في الجريمة البشعة والمشينة، التي وقعت على أرضها، وأنها لا تعتبر قضية خاشقجي قضية أو مشكلة بينها وبين السعودية، وتريد الحفاظ على العلاقات معها كدولة شقيقة تحتفظ معها بقواسم مشتركة تاريخية، وهي معنية أيضاً بالعدالة والوصول إلى الحقيقة في ما جرى في القنصلية قبل ثلاثة أسابيع.

الرئيس أردوغان في خطابه؛ قدم شرحاً وتفاصبل أوفى ورسم صورة أوضح وأدق للمقاربة التركية لقضية خاشقجي، هو بدا حريصاً على العلاقات التركية السعودية، ولم يتحدث بعداء أو حدة، على عكس ما قال وفهم الرئيس الأمريكي ترامب، ولكنه في المقابل، نسف بنعومة الرواية السعودية من أساسها؛ مطالباً وبشكل علني، وفي خطاب موجّه أيضاً للمجتمع الدولي، الحكومة والسلطات السعودية بالتعاون مع تركيا والإجابة على الأسئلة الصعبة والمركزية التي لم يتم تقديم إجابات لها حتى الآن.

أردوغان قدّم الرواية التركية بشكل عام، ولكن ليس بشكل نهائي، بانتظار وصول التحقيقات إلى خواتيمها واستنتاجاتها النهائية. قال إن الجريمة مدبرة، وليس مجرد ردّ فعل أو شجار، وقال إنه تم التحضير لها بشكل مسبق، ورفض فرضية إبقائها في الإطار الأمني، ما يعني أن ثمة مسؤولية سياسية عنها، وطالب بمحاكمة كل من تورط فيها، حتى من الدول الأجنبية، والأهم أنه طالب السعودية بتسليم المتهمين الـ18 لمحاكمتهم في تركيا، حيث جرت الجريمة، وأبدى ثقته في الملك سلمان وقدرته على التعاطي بمسؤولية وحكمة مع القضية.

تبدو المقاربة التركية حتى الآن صائبة وناجحة، فقد دفعت السعودية إلى مسار التعاون الطويل والمستمر، من الموافقة على تفتيش القنصلية إلى تقديم روايات تقترب رويداً رويداً من الحقيقة، كما محاسبة المسؤولين عن الجريمة، ولو بشكل جزئي، بينما تتواصل الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية الغربية على الرياض، الناتجة أساساً عن المقاربة التركية الذكية. وباختصار، ستستمر أنقرة في تعاطيها الناجح والمثمر، وسيستمر التحقيق المهني والنزيه حتى الوصول إلى خلاصات واستنتاجات قاطعة يمكن الذهاب بها إلى المحكمة. كما سيستمر الضغط على الحكومة السعودية لتسليم المتهمين لمحاكمتهم في إسطنبول، وحتماً سيظل الموقف التركي عاملا حاسما وضاغطا على الموقف السعودي لإجراء محاكمة جدية ومسؤولة للمتهمين فى بلادها. وفي كل الأحوال، فقد حققت أنقرة ولو في الحدّ الأدنى هدفها السياسي المتمثل بإضعاف جزئي للقيادة السعودية، ويرتبط أساساً بالبيئة الجيوساسية لتركيا، وتحديداً في العراق وسوريا، حيث لن تكون الرياض قادرة على تبني سياسات مؤذية أو ضارة بالمصالح التركية.