قضايا وآراء

الدعم الاقتصادي لتركيا بين الواقع والواجب

1300x600

تمر تركيا بفترة هامة وحرجة ليس من تاريخ تركيا فحسب، بل من تاريخ المسلمين جميعا. ففي ظل عالم إسلامي يحيط به الضعف من كل جانب، تبرز تركيا كدولة في ظل محيط من الظلمات لتبعث النور في حياة الأمة، بالدفاع عن قضاياها العادلة، فضلا عن كونها محضنا للشعوب المظلومة.

ولكن هذا لم يكن ليرضي صهاينة العرب والعجم، فبدت نواجذ حرب اقتصادية على تركيا. وكانت دعوة الرئيس أردوغان لانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة حلقة في سلسة قطع الطريق على هؤلاء المتآمرين، وهو ما دفعهم إلى تركيز جهودهم بصورة أكبر لضرب الليرة التركية، فشهدت انخفاضا يخالف المعطيات الاقتصادية لبلد يمتلك اقتصادا حقيقيا ملموسا، ويعتمد على ذاته في تلبية حاجاته.

إن الهبوط الذي تعرضت له الليرة في ظل الأحداث الجارية يكشف حنكة الرئيس أردوغان وقراءته المستقبلية الموفقة، فلو تركت الانتخابات إلى وقتها لكن ذلك وبالا على الدولة التركية، حيث كان من الممكن أن يتجاوز الانخفاض كثيرا ما هو عليه الآن، وهو ما كان سيزيد من المشكلة الاقتصادية وتتحول لأزمة قد تستنزف الاحتياطي النقدي وتزيد من رفع سعر الفائدة، وتسهم في تطفيش الاستثمارات، وارتفاع تكلفة المعيشة. لذا كان قرار الرئيس أردوغان قرارا مدروسا وصائبا وفي محله.

أما الذين يضلون غيرهم ويتسترون بتحليلات اقتصادية لا تغني شيئا في علم الاقتصاد، سواء أكان ذلك بنيات حسنة أو بنيات سيئة، فالرد عليهم لا يحتاج لبرهان، فهو واضح وضوح الشمس في وسط النهار.

لقد وجدنا من حمل انخفاض سعر الليرة إلى عجز الميزان التجاري، والديون، وتخفيض التصنيف الائتماني، وتصريحات الرئيس أردوغان بخصوص تخفيض سعر الفائدة على عكس ما يراه البنك المركزي التركي، مهملا أو متعرضا على استحياء للجانب الأهم في المشكلة، وهو البعد السياسي الذي تحركه أيد قذرة لضرب العملة التركية؛ للحيلولة دون انطلاق المارد التركي.

إن عجز الميزان التجاري التركي ليس مستحدثا ولا وليد هذه الأيام، بل إنه أقل مما كان عليه في السابق. فقد بلغ هذا العجز وفقا لبيانات معهد الإحصاء التركي 76 مليار دولار في العام 2017م، في حين وصل إلى 105 مليارات في العام 2011م، وكان الدولار وقتها يعادل 1.8 ليرة.

أما قضية الديون، فلعل ما ذكره محمد شيمسك، نائب رئيس الوزراء التركي، خير رد على ما أثير بهذا الشأن، حيث ذكر أن الدين المستحق على تركيا يشكل 28 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كانت نسبته 72 في المئة في العام 2002م، وأن أصول النقد الأجنبي تفوق إجمالي الديون المستحقة. أما تخفيض التصنيف الائتماني من مؤسسات تعمل للمشروع الغربي، فدوافعه سياسية ولا تحكمه أبعاد اقتصادية.

أما تحميل الرئيس أردوغان المسؤولية بحجة خلافه مع البنك المركزي فهي أسطوانة مشروخة للإساءة للرجل؛ ذكرها الغرب وصهاينة العرب (ولا سيما التقرير الأخير الذي نشرته رويترز). فالبنوك المركزية رغم استقلاليتها، إلا أن من مهامها التنسيق مع الحكومة في سياستها. واستقلاليتها ليست استقلالية بعيدة عن الواقع أو بلا حساب، بل هي جزء من نظام الدولة ومسؤولة عن قرارتها في إدارة السياسة النقدية أمام البرلمان، وما يرتبط بذلك من التحكم في عرض النقود ومستويات التضخم.

 

والرئيس أردوغان من حقه أن يبدي رأيه بصفته المسؤول الأول عن الدولة التركية، وهو لم يرغم محافظ البنك المركزي أو غيره على تطبيق رأيه، وإن كان رأيه بخفض سعر الفائدة يتفق مع المسلمات الاقتصادية في الظروف العادية بالتركيز على جانب العرض لتحفيز الاستثمار، وزيادة الصادرات، وإيجاد كتلة سلعية قادرة على مواجهة الزيادة في الكتلة النقدية، ما يعالج التضخم بصورة موضوعية بعيدا عن المسكنات المؤقتة من خلال التأثير في الطلب.

إننا لا ننكر دور الأسباب الاقتصادية في التأثير على الليرة، ولكن تأثيرها لا يمكن أن يصل بالليرة إلى ما وصلت إليه من هبوط حاد، وتدخل الدولة للحد من تقلباتها. فمما لا شك فيه أن الليرة تتأثر سلبا بارتفاع عجز الميزان التجاري لزيادة أسعار البترول، واعتماد تركيا على المواد الخام من الخارج، ولكن هذا العجز ليس مستجدا، بل كان من قبل أعلى مما هو عليه اليوم، وكذلك أسعار البترول كانت من قبل أعلى مما هي عليه اليوم، وكانت الليرة مستقرة وسعرها أكثر من وضعها الحالي كثيرا. بل إن هناك عوامل إيجابية في الوقت الحالي تحسن من وضع الليرة، ممثلة في وجود زيادة ملحوظة في الصادرات، وتحقيق أعلى معدل نمو بين بلدان مجموعة العشرين، وخروج تركيا من حروبها في سوريا منتصرة..

 

كما أن عدد السياح الذين زاروا تركيا في الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي شهد ارتفاعا بنسبة 32.55 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. كما بلغت تلك الزيادة في أبريل/ نيسان الماضي 28.27 في المئة مقارنة مع نفس الشهر من العام السابق، وذلك وفقا لبيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية.

وكل هذا يعكس طبيعة المؤامرة والحرب الاقتصادية القذرة على تركيا، فما يحدث لليرة هو بفعل فاعل من خلال مضاربات حامية وعمليات قذرة لمافيا ودول ومال في جله مال خليجي خبيث. وقد كشف وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن "هناك بلدين مسلمين وراء هذه الحملة"، وقال: "سنفصح عن اسميهما لاحقا".

إن هذا التآمر المفضوح يتطلب من السلطات النقدية في تركيا خلال هذه الفترة بصفة خاصة الحيطة والحذر، وأن تعزز من دورها في الرقابة والمتابعة لحركة الأموال، وتعزيز نظام السقوف في السحب اليومي بالعملات الصعبة، كما أن اتجاه البنك المركزي لرفع سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس هو الوسيلة المتاحة في ظل هذه الظروف في الفترة القصيرة؛ للحيلولة دون ارتفاع التضخم والمحافظة على الاحتياطي من النقد الأجنبي، مع تحفظنا أساسا على سياسة سعر الفائدة.

أما الشعوب العربية فهي أولى الناس بتركيا، وما يحاك لهذا البلد من صهاينة العرب والعجم يوجب على حملة الرسالة من العرب مساندة أهل الرسالة في تركيا بمزيد من الاستثمارات، وفتح حسابات بالدولار وتحويلها إلى ليرة، والبعد كلية عن الدولرة، والتوجه بالسياحة والعلاج نحو تركيا.

إنني على يقين من أن فترة عدم اليقين التي يتم فيها التلاعب من أيد خارجية ستتحول قريبا إلى فترة يقين بعد الانتخابات التركية، وسوف تتعافى الليرة، وتنطلق تركيا في طريقها، وستبقى مصونة بصون الله لها وعمل قيادتها وأهلها ودعاء المحبين لها؛ العاشقين لتاريخها ومآذنها وآذانها.

إن التآمر المفضوح على تركيا يعود بالذاكرة إلى عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني؛ الذي وقف له الغرب وأذنابه من العرب بالمرصاد، وواجههم بقوة واقتدار، وإن انتهى حكمه بعزله، نتيجة تآمر لا يختلف عن تآمر اليوم، ولكن السلطان عبد الحميد كان في ملعب الحكم وحده يواجه التآمر الخارجي والداخلي. أما اليوم فالرئيس أردوغان يملك أرضية وحاضنة شعبية قادرة - إن شاء الله - على حماية مشروعه، وهو ما جعل من انقلاب 15 تموز/ يوليو ينطبق عليه قوله تعالى: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" (البقرة/ 216)..

 

حمى الله تركيا، حضن المظلومين وملاذ المستضعفين، شعبا ورئيسا وحكومة.