مقالات مختارة

في جدل منصب شيخ المدينة: الآن وقد سقطت ورقة التوت عن مفارقات الخطاب الحداثي

1300x600

دقت ساعة الحقيقة واتضح الخيط الأبيض من الأسود، بخصوص شأن كنا نحسبه من المسلمات لدى دعاة النمط المجتمعي المدافعين الشرسين عن حياض الحداثة.


أما الواقعة التي جعلت الحقائق تنجلي أمام الجميع، فهي  فوز السيدة سعاد عبد الرحيم في دائرة مدينة تونس كرئيسة لقائمة النهضة وهو ما يؤهلها، واعتبارا للثقة الممنوحة لها من المقترعين، أن تكون رئيسة بلدية تونس المدينة وتنال منصب “شيخ المدينة”، وهو الذي  ظل طوال تاريخ تونس الحديث والمعاصر حكرا على الرجال، لا تتطلع إليه النساء ولا ينالهن شرف الفوز به.


ولأول مرة تحدث إمكانية أن تكسر قاعدة أن يظل هذا المنصب ذكوريا إلى الأبد وأن تتقلده سيدة، وهذا من شأنه أن يكرس المساواة وأن يدعم مكانة المرأة التونسية كشريك فاعل للرجل في إدارة الشأن العام، وان يبوئها المركز الذي هي جديرة به، خاصة بعد أن حظيت بثقة الناخبين الذين صوتوا لها بكثافة، ورأوا فيها جدارة بأن تكون على رأس بلدية تونس.

لكن المفارقة اللافتة والغريبة حقا، أنه في سياق استبشار عديد المؤمنين حقا بقضية المرأة،  فوجئنا بالكثير من الأصوات المحسوبة على النخب المثقفة والمبدعة ومن بعض النسويات أيضا إلى جانب بعض الفاعلين السياسيين، الذين استماتوا في التصدي لحصول السيدة سعاد عبد الرحيم على حقها الذي منحه لها جزء من الشعب التونسي عبر التصويت. رفضوا مجرد فرضية أن تتقلد منصب رئاسة بلدية تونس والفوز بلقب “شيخها” لأول مرة، مدعين أن التقاليد والأعراف جعلت من هذا المنصب يختلف عن باقي البلديات، وأن له معنى اعتباريا وارتبطا بأعيان الحاضرة تاريخيا.


وبنوا مواقفهم على حجج واهية ولا تتسق مع الأفكار التي طالما نظروا لها: أي الدفاع اللا مشروط عن حق المرأة الكامل ومساواتها التامة مع الرجل.


من ذلك أن بعضهم استدعى الحجة الدينية، قائلا: “ماذا سنفعل في المناسبات الدينية الكبرى التي تقتضي أن يكون شيخ المدينة حاضرا في رحاب جامع الزيتونة مثلا، على غرار ليلة ختم القرآن في الجامع المعمور وغيرها من المناسبات؟!”


والحقيقة أن المفارقة تزداد عمقا هنا باعتبار أن الذين طالما رفضوا ارتباط الدين بالشأن السياسي، هم الذين يبررون “رجعيتهم” هنا بأسباب دينية، في حين أن الحزب الذي يستند إلى مرجعية دينية هو من رشح السيدة عبد الرحيم لترأس قائمة بلدية تونس ووضع أمامه فرضية حصولها على هذا المنصب، كما يدافع عنها اليوم لنيل حقها في نيل هذا المنصب المهم، الذي سيشكل فتحا للمرأة التونسية وسيدعم صورة بلدنا في المحافل الدولية.

ولا يقتصر الأمر على استدعاء الحجج الدينية فحسب، فهناك أيضا مبررات طبقية واجتماعية جيء بها على عجل من قبل بعض من كنا نحسبهم من النخب التقدمية، وكنا نخالهم قد قطعوا مع بعض أنماط من البنى الذهنية التقليدية، التي تم توارثها عبر الأجيال والتي تقوم على عقلية “انشطارية” تقسم التونسيين على أساس جهوي وطبقي واجتماعي.


أصحاب هذا الموقف يقولون بكون السيدة سعاد عبد الرحيم ليست من سكان الحاضرة الأصليين، باعتبار ان أصولها تعود إلى الجنوب التونسي، وبناء على وجهة نظرهم، ربما لا تعرف مجاهل هذه المدينة وقد ”تتوه” في أنهجها. والحقيقة أن حالة التيه الحقيقي هي التي تتخبط فيها هذه النخبة المثقفة المتعالية على غالبية فئات الشعب التونسي، والمستوطنة لبرجها العاجي والقابعة داخل مقولات ذهنية تقوم على الفرز العنصري البغيض.


ومن بين المواقف المواربة والغائمة أيضا من بعض المنتميات إلى التيار النسوي، اللواتي كنّ قبل فترة ليست بعيدة يدافعن بشكل مستميت عن المساواة التامة بين المرأة والرجل، ولكن اليوم لاحظنا نكوصا واضحا أو ردة عن مثل هذه المواقف، فلم نسمع موقفا واضحا يدافع عن تولي هذه السيدة للمنصب الذي نالته عن استحقاق شعبي.


وجاءت التبريرات مبهمة وخالية من المعنى والوضوح على أساس أن السيدة عبد الرحيم ليست من التيار النسوي، ولم يعرف عنها مناصرتها للقضايا التي دافعت عنها النسويات، وبالتالي لا تجب مناصرتها في هذه المعركة التي فضحت كل المزاعم الواهية، وبينت بجلاء وهن الخطاب الحداثي التونسي ومحدوديته لدى الأصوات التي تتاجر بها وتعتبره حكرا عليها.


وقد أظهر أوصياء الحداثة أنهم يتعاملون في كل القضايا بمنطق المكيالين، وأن المبدئية تخونهم دوما في منتصف الطريق، وذلك ما أظهرته الوقائع المتتالية التي عاشتها تونس طوال السنوات الأخيرة، والتي عرت حقا انتهازية البعض من الذين اتخذوا من بعض الشعارات البراقة مادة للاسترزاق وضرب خصومهم.

لكن المواقف التي ذكرناها هي في الحقيقة تعكس مأزق النخب السياسية والثقافية التونسية التي لم تخرج حتى اليوم من الطوق الإيديولوجي الذي حاصرت نفسها به، ولم تغادر قوقعة الاستعلاء الثقافي والاجتماعي التي تستبطن عقد الغرور والتعالي الأجوف والتمايز عن الآخرين، مع الحقد على الآخر المختلف فكريا وجهويا وطبقيا واجتماعيا، وحتى على مستوى الشكل الخارجي.


ومن المؤسف حقا أن هذه النخب لم تقم بالمراجعات اللازمة، خاصة بعد المد الثوري الذي عصف بالكثير من المقولات التي أسسوا  عليها تمثلهم للشعب التونسي، ولم تسلم حتى اليوم بمقولات المواطنة والعيش المشترك والقبول بالآخر.


وإذا كانت هذه النخب تنسب نفسها إلى الحداثة، فإن أحد أهم مرتكزاتها هي العقلنة وهي التي تغيب في خطابها  القائم على الكثير من المزايدات والرعونة، بعيدا عن الرصانة والحكمة وهو ما يعني إفلاسها.


كما تؤكد هذه الأحداث وما حف بها مع الأسف، الشكل السيئ الذي يتم به التعاطي مع قضايا المرأة التي ظلت طوال تاريخنا ورقة سياسية، يوظفها الفاعل السياسي كما يحلو له ويغنم من ورائها مكاسب على مستوى داخلي وخارجي، دونما إيمان عميق وجاد بمكانتها و الأدوار الموكولة إليها.


إذن افتضح  أمر الخطاب الغائم الذي نذر نفسه  للدفاع عن التقدمية والمدنية، ولكنه رسب عند أول اختبار واتضح أنه يؤسس لحداثة على المقاس، ويدين الخصوم ويحشرهم في مربع ما قبل الحداثة، لكنه يصبح تقليديا ومحافظا عندما تقتضي المصالح الآنية ذلك، وذلك عين الفصام والافتقار إلى المبدئية والنزاهة .


والآن وقد سقطت ورقة التوت وتعرت سوءة هذا الخطاب، نرجو ألا يصدع أحد بعد اليوم رؤوسنا متشدقا زيفا بانحيازه لقضايا المرأة.  

 

مجلة ميم