كتاب عربي 21

تونس: "الرخ لا"

1300x600
من حين إلى آخر، تنجح الجماعات والشعوب في نحت كلمات يكون لها فعل السحر، سرعان ما تنتشر بين الناس، وتثير خيالهم وتحرك مشاعرهم، وتشحن إرادتهم، وتوحد بينهم رغم كل خلافاتهم، وبذلك تتحول تلك الكلمات إلى شحنة استثنائية تمكن الجمهور من تغيير أشياء كان يعد تحريكها من قبل أشبه بالمستحيل.

كان لكلمة "ديغاج" أثر رهيب عندما تجمع الآلاف من التونسيين يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011 أمام وزارة الداخلية، وذلك بعد أن جمعوا كل ما يملكون من شجاعة وتحدي، وقرروا أن يحسموا العلاقة مع الرئيس السباق زين العابدين بن علي، من خلال مطالبتهم له بالرحيل العاجل والنهائي.

في هذه الأيام، اكتشف التونسيون عبارة جديدة وهي "الرخ .. لا".

والكلمة وردت إليهم من شباب تطاوين، هذه الولاية القديمة والعربيقة التي تقع في أقصى الجنوب التونسي، وتحدها الجزائر غربا وليبيا شرقا.

فعندما توجه رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى هناك حاملا معه حزمة من القرارات التي ظن بكونها كافية لإيقاف الحركة الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي، استقلبه شباب المنطقة كما ودعوه أيضا بحزام بشري طويل مرددين كلمة واحدة اعتبروها تلخص موقفهم ومواقف كل أهاليهم "الرخ .. لا".

معنى الكلمة/ الشعار هو "لا تراجع مهما كانت الضغوط والإغراءات".

يعكس المصطلح حالة نفسية احتجاجية تتسم بالتمرد بعد عشرات السنين من الإهمال والتهميش والاحتقار.

عبارة تنذر بانفجار على قاب قوسين أو أدنى، وتعكس إرادة قوية تستند على رفض التنازل ورفض خطاب المناورة وربح الوقت المعتمد من قبل الخصم، وتؤكد وجود استعداد للصمود إلى آخر الشوط مهما كان حجم الكلفة المادية والبشرية التي يفرضها هذا الاختيار.

وفعلا، تمسك شباب تطاوين بمطالبهم كاملة، ولا يزالون مصرين على أن تستجيب لها الحكومة دون أي نقصان، بما في ذلك تشغيل ألفين منهم بالشركات البترولية، وبطريقة فورية.

وهو أمر، يعد عادة مخالفا لمنهجية التفاوض التي تقوم على شعار سبق لبورقيبة أن ردده كثيرا خلال مرحلة الحركة الوطنية ويتمثل في "خذ وطالب"، أي اقبل ما يقدمه إليك خصمك إذا كان عرضه مغريا، ولا تتمسك بالسقف الأعلى الذي وضعته في البداية، لكن بعد حصولك على الحد الأدنى استمر في نضالك من أجل تحسين النتيجة.

ولعل حالة الارتباك والتراجع التي تشهده هذه الحركة الاحتجاجية، تؤشر على أن رفض التنازل وعدم الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى يمكن أن يؤدي إلى نتائج مخالفة لما يرغب فيه المتمسكون بهذه الاستراتيجية الحدية.
 
اليوم، أصبح الجميع يستعملون هذا الشعار، ويرددونه في الجد وحتى في الهزل. فعلى سبيل المثال إذا أرادت أنثى أن تستفز حبيبها أو أي مشاكس لها ترفع في وجهه كلمة "الرخ لا"، أي لن يحصل منها على أي نوع من أنواع التنازلات.

ولرواج الكلمة أكثر من دلالة، وأهمها على الإطلاق إحساس التونسيين بأن مرحلة الانتقال السياسي قد طالت بالنسبة إليهم دون أن تحقق لهم ما كانوا يأملونه على المستوى الاجتماعي بعد النجاح السياسي لثورتهم.

فالشعوب عندما تتخلص من نظام مستبد، يسكنها إحساس عميق بكون أوضاعها ستتغير في وقت وجيز، وتعتقد بأن كل يوم سيمر عليها يجب أن يكون أفضل من سابقه.

لكن للمراحل الانتقالية طعم مختلف، وفي أحيان كثيرة يكون هذا الطعم مفعما بالمرارة نظرا للصعوبات التي تمر بها العملية السياسية، ونظرا للمخاطر التي غالبا ما تحتد بسبب عوامل كثيرة ومعقدة أحيانا.

لهذا، يفترض في الشعوب التي ركبت قطار الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية أن تتمتع بقدر عال من الصبر والتحمل حتى لا تصاب بالحسرة والندم، وحتى لا يستغل ذلك أعداؤها ليعيدوها من جديد إلى مستنقع الخضوع للمستبدين الجدد بحجة أن الديمقراطية لعنة لا يأتي منها خير.

اليوم، يطالب التونسيون رئيس حكومتهم بألا يتراجع عن قراره الخاص بمكافحة رؤوس الفساد بعد اعتقال عدد من المشبوه فيهم.

أثبتت مؤسسة "سيغما كونساي" لاستطلاعات الرأي أن 93 بالمائة من التونسيين يؤيدون حملة رئيس الحكومة ضد رؤوس الفساد.

وحتى تكون الرسالة الموجهة إلى يوسف الشاهد قوية وقاطعة ، طالبه بعض هؤلاء الشباب بألا يتنازل أو يتراجع وذكروه بالشعار السحري "الرخ لا".

لكن المستقبل وحده هو الذي سيجيب الجميع، هل سيصمد رئيس الحكومة في هذه المعركة، أم أنها ستكون مؤقتة وظرفية؟