قضايا وآراء

بين بصرى الشام وتدمر.. تاريخ يستباح وحضارة تُدمر

محمد يوسف الحمادي
1300x600
1300x600
لم يسلم شيء في سوريا من حقد بشار الأسد ونظامه الإجرامي، فالحكم بالدمار طال الحجر والشجر قبل البشر. حكم الإعدام الأسدي نفذ على حاضر سوريا ومستقبلها، حتى تاريخها العريق والمسجل على قائمة التراث العالمي لم يسلم أيضا.

في بداية الثورة السورية عام 2011 قال موالو الأسد وشبيحته: "الأسد أو نحرق البلد"، وظن العالم وقتها أنه مجرد شعار لا يمكن أن يطبق على أرض الواقع، ولم يتخيل أحد يومها أنه قادر على تدمير سوريا وحضارتها، في ظل وجود نظام عالمي تغنى بشعارات حقوق الإنسان ودافع عن الحريات ضد جميع أشكال العنف والديكتاتورية.

قالها شبيحة الأسد علانية، ولم يعرف أحد يومها أنها رسالة من نظام الحكم ذاته بأنه سيدمر سوريا بعد أن يقتل ويهجر أكثر من نصف الشعب السوري.

أثبت نظام الأسد للبشرية جمعاء أنه قوة احتلال، ليس كأي قوة على وجه هذه الأرض، فهو لا يرعى دينا ولا ذمة. ولو فرضنا أن هذا النظام يخوض حروبا كما يدعي هو ووسائل إعلامه، لوجدنا أن هذا النظام لا يصون محرمات الحروب التي سنتها التشريعات الدولية، فحربه على مدنيين عزل، وقصفه على المنازل والمستشفيات والمساجد والكنائس.

شاهد العالم بملء العيون فظاعة مشاهد تدمير التراث السوري الذي تجاوز عمره في بعض المواقع سبعة أو ثمانية آلاف عام. فالمدفعية المجنونة لا تزال إلى اليوم تأكل بأسوار قلعة حلب العريقة، ومثلها قلعة الحصن وقلعة سمعان وقلعة صلاح الدين ومسجد خالد ابن الوليد في حمص، وقلعة المضيق في حماة، والمرقب في بانياس، وقائمة طويلة من الصعب إحصاؤها في مقال.

الحرب على الحجر

صراع الأسد من أجل الكرسي امتد الى الحجر، ودمر تاريخ أعرق حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط، وجعل من عشرات القلاع ثكنات عسكرية لقواته تفتك بالبشر صباح مساء، وإن خرجت منطقة أثرية عن سيطرة قواته حولها لدمار وأثر بعد عين.

لا يمكن لسوري سحرته حلب القديمة وأسواقها المسقوفة أن ينسى مشهد القلعة وأسوارها وهي تنهار تحت وطأة المدافع من كل جهة، فالمدينة التاريخية التي كانت تحتضن أهم معالم التراث العالمي ظهرت في صور الأقمار الصناعية مدمرة تماما بقلاعها وجوامعها ومدارسها وقصورها، وهي مهددة اليوم باختفائها كاملة.

وفي منتصف العام 2014 قدمت منظمة اليونسكو تقديرات حول حجم التدمير الذي تعرضت له المعالم الأثرية في سوريا، والتي أظهرت أن 50 في المئة منها موجودة في حلب، كتدمير السوق التاريخي والقلعة والمسجد الأموي.

وكيف لسوري أن ينسى ما فعلته قوات الأسد وميليشيا حسن نصر الله بأحياء حمص القديمة وشواهدها العظيمة، الذي لم تسلم من همجيتها كاتدرائية أم الزنار وقصر الحير الشرقي وتل الطيبة والمدافن الأثرية البيزنطية والمدافن الغربية والشرقية والشارع الطويل ومتحف التقاليد الشعبية.

ويبقى القربان الأكبر الذي قدمه بشار الأسد لسفاحي العصر؛ تدمر مدينة الشمس ومدينة الملكة العظيمة زنوبيا. فبعد مسرحية الانسحاب منها، دخلها تنظيم داعش وفعل فيها ما فعل من انتهاك و تدمير لأعظم الصروح التاريخية في العالم، حتى الرومان أنفسهم عجزوا عن تدمير هذه المدينة كاملة أثناء حربهم على مملكة تدمر وملكتها زنوبيا التي تمردت عليهم؛ وجلعت لنفسها ولشعبها حضارة قوية تمتد ما بين الشام ومصر يحسب لها ألف حساب.

دمر داعش معابد المدينة الشهيرة كمعبدي "بل" و"بعل شمسين" و"قوس النصر"، وعشرات الأبنية البرجية والأعمدة. كما لم يقتصر إرهاب هذا التنظيم على التدمير، فحسب بل انتهك حرمة الكنائس والأديرة والزوايا والمقامات، ومرافق مهمة منها متحف الرقة، الذي كان يضم مئات القطع الخزفية والأواني والعقود الحجرية التي ترجع إلى العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية، إضافة إلى جداريات الفسيفساء التي عثر عليها الآثاريون السوريين في منطقة حويجة حلاوة، وترجع إلى القرن الخامس الميلادي.

وأشارت دراسة مستقلة في العام 2014 إلى أن عدد المواقع المتضررة في المنطقة الشرقية وحدها، والتي تشمل الحسكة ودير الزور، يقدر بحوالي 120 موقع.

وفي إدلب، تم تدمير عشرات المواقع الأثرية، كقلعة حارم، والدير الأثري في البارة، والكنيسة الأثرية في الفاسوق، و متحف أفاميا، ومتحف معرة النعمان.

أما في مهد الثورة درعا، فقد طالت يد الغدر عشرات المواقع الأثرية، على رأسها الجامع العمري بدرعا البلد، الذي انطلقت منه أولى صيحات الثورة، وهو أقدم مساجد بلاد الشام، وأمر ببنائه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إبان الفتح الإسلامي لبلاد الشام. ومثله مواقع أثرية في تل شهاب والمزيريب ونوى والشيخ مسكين وبصرى الشام ومعربة وخربة غزالة، في محافظة درعا.

التاريخ هدفا

سوريا مهددة اليوم بأن تصبح خارج الزمان، هكذا يتكلم الحاضر عن نفسه، والمستقبل بدأت ترتسم حوله علامات استفهام، والماضي على وشك أن يزول تماما، فقد وصل الدمار والنهب لحدود لا يتخيلها عقل بشر؛ طالت النفائس التراثية والأثرية، حتى أن أحد المؤرخين وصفها بأنها متحف في الهواء الطلق.

عصابات "ذو الهمة شاليش" و"مخلوف" و"ماهر الأسد" و"آصف" و"رفعت" سرقت غالبية آثار سوريا وهربتها إلى أوروبا وروسيا وإيران، حتى القطع الأثرية في المتاحف والمسجلة لم تسلم من هذه الأيادي السوداء.

وقد دقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) ناقوس الخطر، وأعلنت أن عمليات التنقيب عن الآثار تجري في أنحاء متفرقة في سوريا وفي مواقع أثرية مهمة، وأن بعض المواقع الأثرية دُمّرت أو نهبت بالكامل، ووصفت هذه الأعمال بالخطيرة والمدمرة للتراث الثقافي السوري.

وأظهرت صور نشرت مطلع العام 2015، وتم التقاطها عبر الأقمار الصناعية لعدد من المواقع الأثرية، مدى الدمار الرهيب الذي حل ببعض المواقع الأثرية السورية، وكتبت صحيفة فوكس الألمانية: "إن الإنسانية على وشك أن تفقد آلاف السنين من تراثها الثقافي، فقد كشف تحليل الصور أن هناك نحو 300 موقع أثري تم تدميرها، أو نهبها، إضافة إلى قصور انهارت ومآذن دُمرت. ووفقا لتقرير الأمم المتحدة، فإن 24 موقعا دمرت بالكامل، و104 مواقع تعاني من أضرار كبيرة، و84 تأثرت تأثرا جزئيا، وأكثر من 77 موقعا عانت من الأضرار".

طريق البقاء

بصرى الشام مثال المدينة المحررة التي تم إنقاذ ما تبقى من آثارها من الدمار الكامل، بعد أن تمكن الجيش الحر من تحريرها. وكانت قوات الأسد قد حولتها إلى ثكنة عسكرية مغلقة، واتخذت من قلعتها ومدرجها منطلقا لأعمال القصف والقنص. تعرضت أجزاء كبيرة من قلعتها وشواهدها الأثرية للدمار، جراء القصف العشوائي، مثل سرير بنت الملك ذو الرواية الشهيرة، ودير الراهب بحيرى، والأقنية الرومانية، والأعمدة والمساجد التاريخية، كما تم نهب غالبية مقتنيات المدينة الأثرية الموجودة في المتحف والأبنية القديمة.

ومنذ الساعات الأولى لدخول فصائل الجيش السوري الحر إلى المدينة أمرت بتشكيل لجان عديدة لحراسة الآثار والحفاظ عليها، كما شُكلت ورش إصلاح وتنظيف المدينة، وبدأت تدعو أهل المدينة للعودة إليها بعد تشريد ولجوء دام سنين.

تشرف اليوم فصائل الجيش الحر مع المجالس المحلية على تسيير أمور المدينة، والعمل الجاد لإعادة الحياة إليها، حيث أقامت العديد من المهرجانات على مسرح القلعة الكبير، منها مهرجان للأطفال العائدين حديثا إلى منازلهم، نقلته العديد من وسائل الإعلام العالمية.

لنتمكن من حفظ آثار سورية وتاريخها يجب أن تطبق تجربة بصرى الشام على بقية المدن السورية، تسجل كل مقتنيات المدينة بقوائم، ويقوم أهلها أنفسهم بتعيين أشخاص يحافظون ويدافعون عنها ضد أي خطر يتهددها.

لا تقتصر ويلات حرب بشار الأسد على الأرواح البشرية فحسب، بل تقتل التاريخ بزوال أعظم الآثار في التاريخ، والتي لا يمكن تعويضها بأي ثمن. فتدمير الآثار وأماكن العبادة أو الأعمال الفنية يهدف دائما إلى القضاء على هوية الخصم، وتاريخه وثقافته وإيمانه، بهدف محو كل أثر لوجوده ووسائل فخره بهويته. وبشار الأسد كان بهذا خصما لكل سوري.
التعليقات (0)