في عَشر
قصائدَ بألسِنةِ نساءٍ لَعِبن أدوارًا مهمّةً في حياةِ ثمانيةِ أنبياءٍ كما نعرفُها
من القرآن والعهدَين القديمِ والجديد، يقدِّم الشاعر الأردني عبد الله أبو شميس ديوانًا
متحدّيًا للمستقِرِّ في الوعي العامِّ بخُصوص قَصَص هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
أجمَعين.
كلامُ الرِّجال:
وإذا
كان شاعرُنا قد انحازَ إلى مَن أسكتَهُنّ القَصَصُ المُقدَّسُ في سبيلِ الإفصاح عن
الجَوهَر المهمِّ للدِّين وقضاياه، فليَسمَح لنا بأن نبدأ تناوُلَنا لديوانِه – مُتَّبِعِين
طريقتَه في إنطاق الصامِتين – بالتماسِ كلامِ مَن أسكتَهم هو في ديوانِه، أعني الرِّجال.
لا نسمعُ أصوات هؤلاء الرِّجالِ الأنبياء إلّا لِمامًا، غالبًا كاقتباساتٍ تحكيها النساءُ
تَخدُمُ سَيرَ الأحداثِ المعروفةِ التي تُقالُ القصيدةُ على خلفيّتِها، ومِثالُ ذلك
قولُ (نُوحٍ) لامرأته في القصيدة التي بلِسانِ هذه الأخيرةِ (والِهة): "لِكَي
أصنعَ ألواحًا – لِكَي أبني سَفينة – سيأتي مطرٌ كالبحرِ من أعلى ويأتي مطرٌ كالبَحرِ
من أسفلَ – سماءُ الله ملأى بسَحابِ أسودٍ لا تُبصِرينَه." وقولُ يعقوبَ مردِّدًا
كلامَ امرأته في قصيدة (راحيل): "قد فعلوها – هذا دَمٌ كَذِبُ" وصوتُ يوسف
في القصيدة نفسِها: "أُمِّيَ الفَرقَدان أنا وشقيقي..إلخ". أمّا في قصائد
(هاجَر – زُليخا – آسيا – بلقيس – خديجة) فلا نسمعُ أصواتَ الأنبياء (إبراهيم ويوسف
وموسى وسليمان ومحمدٍ) – عليهم الصلاة والسلام – إطلاقًا، ولا نسمعُ صوتًا لفِرعون
ولا العزيز كذلك في (آسيا) و(زُلَيخا). لكنّ ثلاثةَ استثناءاتٍ مهمّةٍ تُطلُّ علينا
من قصائد (حوّاء – صفّورا – مريم)، حيثُ يُنطقُ شاعرُنا آدمَ وموسى وزكريّا على الترتيبِ
بشِعرٍ حقيقيٍّ، لا مجرّد جُمَلٍ تَخدُمُ خلفيّةَ القصيدة.
هكذا
نسمعُ آدم في (حوّاء) يقول أوّلًا في تساؤُلٍ بريءٍ هو تساؤل الإنسان الأوّلِ الهابطِ
من الجَنّة: "أفي الأرضِ كالجَنّةِ العاليَةْ/ مَقاصِيرُ من فضّةٍ صافيَةْ؟ -
أفيها ينابيعُ من عسلٍ/ وخَمرٌ تشِفُّ من الآنِيَة؟ إلخ" ويقولُ في ختام القصيدةِ
"فَدَيتُكِ عبّأتِني بالبُروقِ وأحرَقتِ في لَمحةٍ أنَّتِي – أسمِّيكِ حَوّاءَ،
أنتِ احتويتِ جُنوني وشارَكتِني زلَّتي ...إلخ".
ونسمعُ
موسى في (صفُّورا) يُنطِقُه شاعرُنا بلَثغةٍ تتجاوَبُ وقولَ بعض المفسِّرين في معنى
قول القرآن بلسانِ موسى في سورة (طه): "واحلُلْ عُقدةً مِن لِساني يَفقَهوا قَولي"
وفي سورة (القصَص): "وأخي هارونُ هوَ أفصَحُ منّي لِسانًا" فها هو هنا يقولُ
لامرأتِه: "ثامِحِيني فلَيثَ لَدَيّْ/ لَكِ مَهرٌ ثِوَى ثاعِدَيّْ/ ولِثانٍ ثَيَلثَغُ
باثمِكِ لكنّه ثَيَظَلُّ الوَفِيّ!" وأخيرًا نسمعُ زكريّا في (مريم) يقولُ لها:
"لو كُنتُ أُنثى لَكُنتُكِ واسميَ مَريَمُ" إلى غير ذلك ممّا يقولُه في القصيدة.
والشاهدُ
ممّا سبقَ أنّ كلامَ الرِّجال في الديوانِ يتراوح بين قُطبَين، عند أحدِهما الرُّدودُ
التي تبدو جافّةً جافِيةً، وهذه يمثّلُها كلامُ نوحٍ في (والهة)، حيث هو رجلٌ متعلّقٌ
بأوامر ومواعيدِ الله لا يرى غيرَها، ويرى هذه المواعيدَ واضحةً لا لَبسَ فيها، بينما
تراها امرأتُه مَحضَ خَرَفِ شيخوخة. وعند القُطبِ الآخَر الرُّدود المفعمةُ بالحُبِّ،
وهو حُبٌّ مأخوذٌ بفتنة الجسَد الأنثويِّ غارقٌ في محاسنِه في (حوّاء) حيثُ يقولُ آدم:
"أنا آدمُ اليوم، لا أمسِ لي/ وحَسْبيَ في غَدٍ امرأتي – وما عُدتُ أبحثُ عن جَنّةٍ/
فسوفَ تكونِين لي جَنّتي"، أو حُبٌّ عُذريٌّ يتجاوبُ وما نعرفُه من شخصيّة موسى
الذي يسقي للأُختَين ويتولّى إلى الظِّلِّ في تواضُعٍ ولا يرفَعُ عينَيه إليهما في
(صفُّورا)، أو حُبٌّ ربّانيٌّ كما بين المتحابِّين في الله السائرِين إليه لدى زكريّا
في (مريم). وبين القُطبَين أطيافُ شتّى، ولعلّ أوضحَها ذلك الطَّيفُ المتجسِّدُ في
رُدودِ (يعقوب) التي يكرِّرُ فيها جُملَتَي امرأتِه - مُثبِتًا الجريمةَ على أبنائه
(قد فعلوها) ثُمّ مُنكرًا إيّاها (هذا دَمٌ كَذِبُ)- حيثُ تمثّلُ حيرةَ النبيِّ الشيخِ
ولوعتَه أوّلًا على فَقد ابنِه، ثُمّ تعلُّقَه بالأملِ الذي تُبدِيه امرأتُه ثانيًا،
وفي الحالَين يشِفُّ موقِفُه عن عنصُرٍ آخَرَ غير اليقين النبويِّ الذي تُثبتُه له
سورةُ (يوسف)، وهو عنصُرُ الضعفِ الإنسانيِّ، فضلًا عن كَون لوعتِه وأملِه صدىً للوعة
امرأتِه وأملِها.
وفي
تقديري أنّ انطلاقَنا من هذه النُّقطة قد يكونُ مفتاحيًّا لقراءةِ الدِّيوان، فالخطوة
التاليةُ لا مَحالةَ هي الخروجُ من كلام الرِّجال ذي المكانةِ الثانويّةِ هنا إلى كلامِ
النِّساء، مَدارِ الدِّيوان ومحورِه. وكما تبايَنَت مواقفُ الرِّجال إزاءَ نسائهم وردودُهم
عليهِنّ، تبايَنَت مواقفُ النّساءِ من الرِّجال بالضرورةِ، لكنّ الأهمَّ هو تبايُنُ
مواقفِ النساءِ من الله، أو من قضايا الدِّين التي يمثِّلُها أزواجُهنّ.
القالَبُ
والسِّماتُ الأسلوبيّة
يتّضِحُ
من حيثُ الشَّكلُ أنّ قصائدَ الديوان جميعًا جاءت تفعيليّةً، ولم يَظهَر عمودُ الشِّعر
إلّا في مَطلعَ القصيدة الأولى (حوّاء) وختامِها وأجزاءَ بينيّةٍ فيها، والقصيدة الأخيرة
(خديجة) بالكامل، حيثُ جاءت الأجزاء العمودية في (حوّاء) في البحر المتقارِب (فعولُن
فعولُن فعولُن فَعِلْ)، وجاءت (خديجة) في البحر السريع (مُستَفعِلُن مُستَفعِلُن فاعِلانْ).
والمهمُّ أنّ هاتَين القصيدتَين تَنحُوان نَحوَين متضادّين فيما يتعلّق بالعلاقةِ بالله،
فبينما لا يَظهر اسمُ الله أو ما يدلُّ عليه صراحةً في (حوّاء) إلّا في الشطر الأول
"عصيتُ إلهي لأبقَى معَكْ"، لا يَظهرُ كذلك ما يشيرُ إلى الله في (خديجة)
إلّا في البيت الأخير "أرملةُ اثنَين فيا رَبُّ لا/ تقذِفْ بها ثالِثةً للرِّمالْ".
وفي تقديري أنّ شاعرَنا بهذه المُصادَفة – ولا أظنُّها إلّا مُصادَفةً، لكنّها موفّقَةٌ
في بناءِ مَعنىً قويٍّ ومعمارٍ واضحِ المَعالِم للديوان – قد مثَّلَ رحلةَ الموقفِ
الإنسانيِّ من الدِّينِ تبَعًا لوجهة نظر القرآن، فقصيدةُ (حوّاء) – لا شخصيّة حوّاء،
إذ إنّ رؤيةَ الشاعرِ هنا قرآنيّةٌ لا توراتيّةٌ، حيثُ جعلَ عصيانَ حوّاء تابعًا لعصيانِ
آدمَ، لا العكس - هي السُّقوطُ الأوّلُ الذي بدأَ بعِصيانٍ قاسٍ ليَجِدَ الإنسانُ نفسَه
غارقًا في وَحل الأرضِ ومُعاناتِها ولحظاتِ نعيمِها كذلك (حيثُ حوّاءُ جَنّةُ آدَمَ
في نهاية القصيدة)، وقصيدةُ (خديجة) هي تلك الحَيرةُ والخَوفُ العميقُ في نهاية قصّة
الإنسانِ قبلَ ظهور النبيِّ الخاتَمِ برسالتِه، الحيرةُ والخوفُ اللذان لا يَجِدان
ملجأً إلّا الله. ولعلّه من الكاشفِ أن نرى ابتداءَ (حوّاء) بجُملةٍ مُثبَتةٍ
"عصيتُ إلهي" في قسوةٍ تمثّلُ ما كان بوَصفِه ضربةَ لازِبٍ لا استدراكَ عليها،
فيما تبدأُ (خديجة) بسؤالٍ "حَتّامَ يا مَكّةُ هذا المِطالْ؟"، وهي القصيدة
الوحيدةُ في الديوان التي تبدأُ بسُؤالٍ، مجسِّدةً من أوّل مَطلَعِها تلك الحيرة.
وَلنُضِف إلى ذلك أنّها القصيدةُ الوحيدةُ المبدوءةُ
بمُخاطَبٍ غير مُشخَّصٍ، فالمُخاطَبُ فيها المكانُ كما هو واضحٌ، بينما مُخاطَبات القصائد
التسع الأخرى إمّا أن تكون الزوجَ النبيّ (حوّاء – هاجر – صفُّورا – والِهة في بعض
أبياتِها) أو نفسَ المرأة المتحدثة (والهة في مقدمتها – راحيل – زليخا – آسيا – مريم
في جزئها الثاني (العُزلة)) أو الشَّعبَ المحكومَ في قصيدة (بلقيس)، أو الرَّبَّ في
مَقطعٍ طويلٍ وحيدٍ متفرِّدٍ في الجزء الثالث (الدعاء) من قصيدة (مريم).
أمّا
في (خديجة) فيَلعبُ هذا المُخاطَب غيرُ المُشخَّصِ دورًا مهمًّا في تكريس شعورِنا بحَيرةِ
المتحدثة، وهي حيرةٌ تتجاوبُ معها عناصِرُ كثيرةٌ احتشدَت في هذه القصيدة. ولعلّ مِن
هذه العناصرِ عَرُوضَ القصيدة المتفرِّد، فهي القصيدةُ الوحيدةُ في الديوانِ المَصوغةُ
في بَحرٍ مُركَّبٍ، بينما جاءت القصائدُ الأخرى في أبحُرٍ صافيةٍ (1 في المتقارِب
– 2 في الرَّمَل – 1 في الوافر – 1 في الكامل – 4 في المتدارَك)، والتّركيبُ بين إيقاعَي
التفعيلَتين (مُسْتَفْعِلُنْ/ مُتَفْعِلُنْ/ مُفْتَعِلُنْ – فاعِلُنْ/ فاعِلانْ) أقربُ
ما يكونُ إلى صَدىً لتركيبِ الموقفِ العامّ للمتحدّثةِ (خديجة) في بيئتِها الغارقةِ
في القِتال، وفي ظروفِها الخاصّةِ كامرأةٍ مات عنها زوجان قبلَ أن تتزوّجَ الثالث.
وللتركيبِ
وظيفةٌ أخرى يعضِّدُه فيها القالَبُ العموديُّ المبنيُّ على شطرَين متماثِلَين إيقاعيًّا،
وهذه الوظيفةُ هي إتاحةُ وقفةٍ للمتلقّي ليتأمَّلَ الموقفَ على مَهَلٍ، وهي وقفةٌ تأمُّليّةٌ
مهمّةٌ في هذا الموقِف المُركَّب، كما أنّ محضَ إتاحةِ الوقفةِ يستحضِرُ تركيبَ الموقفِ
وتعقيدَه، في حلقةٍ مُفرَغةٍ تجسِّدُ أزمةً مؤجَّلَةَ الحَلّ، لا نعرفُ حلَّها إلّا
مِن خارجِ القصيدةِ حيثُ نعرفُ مآلَ شخصَيها الرئيسَين (خديجةَ والنبيّ صلواتُ الله
وسلامه عليه).
وهذه
الوقفةُ التأمُّليّةُ ليسَت موجودةً على هذا النّحوِ في القصائد التفعيليّة السابقةِ،
وإنما يُفسِحُ فيها شاعرُنا المجالَ للشِّحنة العاطفيّةِ العارمةِ لتعبِّرَ عن نفسِها،
وليسَ الأمرُ كذلك مع (خديجة) التي تقِفُ في هذه القصيدةِ معبِّرةً عن العَقلِ القويِّ
المتحكِّمِ في العاطفة، فها هي تقولُ عن نفسِها في استبصارٍ رائعٍ: "مازِلتُ لا
أعرفُهُ جيِّدًا/ وإنني نَقّادَةٌ للرِّجال"، وحتى حين تعبِّرُ عن عاطفتِها تجاهَ
النبيِّ هنا نشتَمُّ في تعبيرِها ضَربًا من ضُروب التمرُّدِ العقليِّ على هذه العاطفةِ،
فها هي ذِي تقولُ: "قافِلَتي تاهَت بصحرائه/ وشَرِبَتها في الهَجيرِ الرِّمال
– ومرَّت الرِّيحُ على إثرِها/ فلَم تدَع من أثَرٍ للجِمال"، وليسَت عبقريّة الصُّورةِ
هنا في محض تجاوُبِها وما نعرفُه من احترافِ خديجةَ للتّجارة وتسيير القوافل، وإنما
كذلك في امتدادِ الصُّورةِ واستقصاء جوانبِها لتمثِّلَ ذَوَبانَ خديجةَ في شخصية زوجِها
العبقريّة.
وهي
تقولُ بعد ذلك: "مشيتُ أعوامًا ولَمّا أصِلْ/ وإن أكُن غارقةً في الوِصالْ! –
أحضُنُه لكنّما مِثلَما/ يَحضُنُ في الحُلمِ الخيالُ الخَيالْ – هذا ضلالي فيهِ، يا
ليتَني/ لا أهتدي إلّا بهذا الضّلالْ."
والشاهدُ
أنّ مُفرداتِ وتراكيبَ هذه الأبياتِ تتجاوبُ بقُوّةٍ مع ما أسلَفناه من حيرة خديجةَ
المركَّبَةِ واستبصارِها العقليِّ الواعي بعاطفتِها.
نَسَقٌ
مُدهِشٌ بين "صفّورا" و"مريم"
تأخذُنا
الملاحظةُ السابقةُ عن ابتداءِ (حوّاء) وانتهاء (خديجة) بذِكر الإله/ الرّبّ إلى موقِف
بقيّة القصائدِ من ذِكر الإله. وسنجِدُ حينئذٍ نَسَقًا مُدهشًا، فمُعظَم القصائدِ يَذكُرُ
الإله صراحةً أو إشارةً مرّةً أو اثنتَين تقريبا.
تقولُ
(والهة): "يا شيخُ سماءُ الله زرقاءُ" فيرُدُّ نوحٌ "سماءُ الله ملأى
بسحابٍ أسودٍ لا تُبصِرينَه!"، ثُمّ تشيرُ إلى الله بتكرار جُملة "واثقٌ
أنتَ بميعادِ السّماء!" في سُخريةٍ واضحة.
أمّا
(هاجَر) فتنسابُ في ثورةٍ أموميّةٍ عارمةٍ على رؤيا إبراهيم بذبح إسماعيل، فيأتي ذِكر
الرّبّ بلسانِها مرّتَين، لا في سِياقٍ ساخرٍ كما عند (والهة)، وإنما في سِياقٍ متمرّدٍ
غاضب: "أيُّها الشيخُ الذي قد جاءَ مِن أقصى مَنافي الرَّبِّ كَي يَذبحَ إنسانًا
ويُفنِيهِ كما يُفني الشِّياها – ربّما كُنتَ نبيًّا، إنّما لو كُنتَ أُمًّا لم تُطِع
رُؤياكَ في هذا وخالَفتَ الإلها".
أمّا
زليخا وآسيا وبلقيسُ فيُنطِقُهنّ شاعرُنا بما يتجاوبُ وبيئاتِهنّ الشِّركيّةَ، فتقولُ
زليخا: "وسوف يدوخُ في عِطري وسوفَ أدوخُ بينَ يديهِ وَلْتَغفِر ليَ الأربابْ!"،
وتقولُ آسيا: "آمونُ يَسحَبُ قُرصَه عن شُرفَتي" و"عذراءَ قُربَ النِّيلِ
أدعو قَلبَ آمونٍ فأرسَلَ لي بموسى"، وتقولُ أخيرًا بلقيس: "نحنُ أعلى ونحنُ
أُولو قُوّةٍ وإلهتُنا الشَّمسُ تَرمي أعادِيَنا بالنِّبالْ".
لكننا
سنتعاملُ مع أقوالِهنّ بالمَنطقِ الذي ارتآه مُحيي الدِّين بنُ عربيٍّ حين قالَ إنّ
المُشرِكين يعبُدون في آلهتِهم صِفاتِ الله التي تتجلّى في هذه الآلِهة ("فما
عُبِدَ غيرُ اللهِ في كُلِّ مَعبودٍ" من كتابه: فُصوص الحِكَم)، ومِن ثَمّ فإنّ
اللهَ حاضِرٌ في حديثِ زُليخا وآسيا وبلقيسَ رغمَ ذِكرِ آلهةٍ أخرى. وأمّا راحيلُ فهي
تشيرُ إلى الله دون تصريحٍ بقولِها: "وأمُدُّ فِراشَكَ قُربَ فِراشي، أُعوِّذُهُ
بتَعاويذِ يَعقُوبَ والأنبياءِ".
ولا
يتبقّى إلّا قصيدتا (صفّورا) و(مريم) ليكتملَ النسقُ المدهِش الذي أشَرنا إليه.
في
(صفُّورا) ليس ثَمّ ذِكرٌ للإله على الإطلاق، لا صراحةً ولا إشارة. أمّا في (مَريم)
المقسَّمة إلى ثلاث أقسامٍ، يُذكَر الله صراحةً في القسم الأول حيثُ تقولُ مريمُ مخاطِبةً
أُمّها "أنتِ حرَّرتِني منذُ أن كنتُ أسبَحُ في حَوضِ خَصرِكِ لِلّه"، ثم
تذكرُ صلاتَها ونُسُكَها في القسم الثاني (العُزلة)، ليجيء القسم الثالث (الدُّعاء)
بالكَثافةِ الأعلى لذِكر الرَّبّ ومُناجاتِه في الديوان "رَبِّ يا مَن مَننتَ
على زكريّا – رَبِّ نُورُكَ مِلءُ وجودي – وأنا يا إلهي مُحرَّرَةٌ لكَ – أعطِني ولدًا
يا إلهي". وَلنَعُد إلى (صفّورا) مُجدَّدًا لنرى بأيّةِ لُغةٍ كُتِبَت.
بماذا
تذكِّرُنا هذه الجُمَل المحتشِدةُ بمظاهر جَمال الطبيعةِ ومشاهدِ البيئة وهي تعانِقُ
الجَمالَ في جسد الأنثى؟! "لكنّ أختي الصغيرةَ تَحلِفُ أنّ العصافيرَ كانت تُرَفرِفُ
فوقَ جبيني وأنّ الوُرودَ تُبَرعِمُ في وَجنَتَيّ – وقطعتَ الصحارَى على قَدَمَيكَ
لتَقطِفَ يا سيِّدي زَهرةَ البدويّ – كَي أعودَ لأجلِكَ فَخّارةً وأُساقِيكَ مِن ماءِ
حُبِّي – ما فَكَّ قَبلَكَ إنسٌ ضفائرَ شَعري – ولا مَرَّ طَرفٌ على طَوقِ خَصري –
حين يلثغُ باسمِي تُكَركِرُ فِيَّ جِرارُ الفَرَحْ – وتَمُوجُ السُّهولُ بقَوسِ قُزَحْ".
نعَمْ،
كما أزعُمُ أنّ الإجابةَ تعتملُ في رأس القارئ، تذكِّرُنا بنَشيدِ الأنشاد، أحَد سِفرَين
في العهد القديمِ لا ذِكرَ فيهما للإله (والسِّفر الآخَر هو إستر). وكما يعتقِدُ شُرّاحُ
العهد القديم من اليهود أنّ نشيدَ الأنشادِ يجسّدُ علاقة الرّبّ بشَعبِه المُختار،
وأنّ في غيابِ الذِّكر الصريح لاسم الرّبّ فيه وفي (إستر) إشارةً إلى إفاضة القداسة
الإلهيّة على ذلك الشَّعب المُختار، تأتي قصيدةُ (صفُّورا) لتَلفِتَنا إلى أمرٍ مُشابهٍ،
وهو أنّ علاقةَ موسى بصفُّورا علاقةٌ نشأَت على عَينِ الله وبقَدَرِه ورعايتِه، وأنّ
هذا أمرٌ مفروغٌ منه لدرجةِ أنّ محضَ التصريحِ باسمِ الرّبّ أو الإشارةِ إليه يُصبِحُ
مِن نافلةِ القَولِ هنا.
والآنَ
إلى (مَريم) في خُطوةٍ أخيرة. إنّ أسطُرًا بعَينِها في هذه القصيدةِ تكادُ تجعلُ منها
نشيدَ أنشادٍ مَنفيًّا أو مقلوبًا إذا جازَ القول: "لم أجِئْ ذَكَرًا مِثلَما
شِئتِ لكنّني طُولَ عُمري أقُصُّ جدائلَ شَعري وأُخفي براعِمَ صَدري لعلّي أكونُ كما
قد رَجَوتِ – حرَّرتِني مِن أماني الصَّبايا، وحرَّرتِني مِن غُرورِ المَرايا"،
فها هُنا مريمُ تَسلُكُ في حياتِها مَسلَكًا يُلاشِي ثُنائيّةَ الذَّكَر والأنثى التي
يقومُ عليها وعلى رمزيّاتِها المُحتمَلَةِ نشيدُ الأنشاد، كما تقومُ عليها القصائدُ
التسعُ الأخرى في الدِّيوان.
وحين
يقتربُ منها الذَّكَر بمجرَّدِ السؤالِ عنها تتبرّأُ من جسدِها كما تتبرّأُ من شواغلِ
القَلب الدنيويّةِ كُلِّها "قالَ لي: جاءني أمسِ يوسفُ يسألُ عنكِ، فقُلتُ لهُ:
قُل لهُ إنني قد غَدَوتُ خَيالًا وقلبي خَلِيّا".
ولهذه
المقدِّماتِ الاستثنائيّةِ حفَلَت القصيدةُ في نهايتِها بشواهدِ تلك المنزلة العظيمةِ
التي لسيدةِ نساءِ العالَمين، ممثَّلةً في كثافة مخاطَبة الرّبّ. بل إنّ شاعرَنا قد
خطا خُطوةً أوسَع، فوضعَ على لسانِ مريمَ دعاءً يجسِّدُ طموحًا إلى القُربِ من الله
يليقُ بها، فالقصّةُ القرآنيةُ لا تقولُ إنّ مريمَ سألَت اللهَ وَلَدًا بلا أبٍ، بل
الثابتُ أنّها دهشَت وخافَت من تلك البُشرى الخارقةِ للعادة، أمّا هنا فهي تقولُ:
"أنتَ مَن قُلتَ لي لن تكوني ككُلِّ النساءْ – وأنا يا إلهي مُحرَّرَةٌ لكَ، دَعني
أظلّ مُحرَّرَةً لكَ لا لِسِواكْ – أعطِني وَلَدًا يا إلهي بدُونِ أبٍ، أعطِني ولَدًا
لأراني بهِ وأَراكْ".
وإذَن
فهو نشيدُ أنشادٍ مَنفيٌّ، تستبقي فيه مريمُ من أنوثتِها الرغبةَ في الوَلَد، لا لتأتنِسَ
به كما يأتنسُ البشَر بأولادِهم، وإنما لتأتنسَ باللهِ في وجودِه الاستثنائيّ.
أخيرًا،
يَلُوحُ لي ممّا سَبقَ أنّه ما أبعَدَ شاعرَنا – في تسميتِه ديوانَه (كتابَ المَنسيّات)
وفي موضوع قصائدِه العَشرِ المُحتفي بكلامِ مَن أصمتَهُنّ القرآنُ والعهدانِ القديمُ
والجديدُ – عن الهاجسِ النِّسويِّ الذي يبتغي كتابةَ التاريخِ من منظور النساءِ فيَقلِبَ
تراتُبَ القضايا. بل هو بالأحرى يقدِّمُ لنا أحاديثَهنّ ليَلفِتَنا إلى أبعادٍ ضائعةٍ
من رؤيتِنا لصُورةِ العلاقة بين الإنسانِ واللهِ في تاريخِها منذُ آدمَ إلى النبيِّ
الخاتَم صلواتُ الله عليه وآلِه. وهي أبعادٌ تُثري هذه الصُّورةَ وتملؤها ألوانًا وظِلالًا
لم يَكُن لنا أن نُدركَها لو لم يقيِّض لها اللهُ شاعرًا له من رهافةِ الشُّعور ونَفاذِ
البصيرةِ ما لشاعرِنا.
ولنُوجِزَ
بعضًا من هذه الظِّلالِ والألوان، نذكِّرُ بما أسلَفنا القولَ عليه مِن رِحلة الإنسانيّة
من السقوط في (حوّاء) إلى حيرةِ جاهليّةِ مكّة في (خديجة)، وسخرية (والهة) من مواعيد
السماء في مقابلِ غضبِ (هاجَرَ) الأموميِّ الذي لا يَنفي إيمانَها وهو يعترفُ بنوازعِها
الإنسانيّة، وتماهي (صفّورا) مع نشيد الأنشادِ الذي يجعلُ علاقة موسى بصفّورا على عينِ
الله، في مقابلِ نشيد الأنشاد المَنفيّ في (مريم) التي تُلاشي ثنائّة الذكَر والأنثى
على دربِ السالِكينَ إلى الله، والموقِف العَقليّ القويِّ لخديجةَ واستبصارِها الطّاغي
في مقابلِ التدفُّق العاطفيِّ لمَن قبلَها من النساء.
وهذا
بعضٌ مِن كُلٍّ، وغَيضٌ من فَيضِ هذا الديوان الاستثنائيِّ في ثرائه وجَمالِه، لم نتعرّض
لصُوَره الجزئيّة الجميلةِ ولا لتماهي مفرداتِه وتراكيبِه مع البيئات الافتراضيّة للمتحدّثاتِ
إلّا بأقلِّ القليل.