في مأدبة أُقيمت عام 1985 بمناسبة الذكرى الثلاثين لانطلاق دورية «ناشونال ريفيو»، بحضور رونالد ريغان، ألقى ويليام إف. باكلي جونيور (مفكر أمريكي ومؤسس «ناشونال ريفيو - المحرر») خطابا احتفل فيه بالرادع النووي الأمريكي، واستعداد الرئيس الأمريكي لاستخدامه. وأعرب باكلي عن اعتقاده بأن هذه الأسلحة وهذا الاستعداد قد ساعدا على الحفاظ على الحرية الأمريكية خلال حقبة الحرب الباردة، بحيث يمكن للأجيال القادمة أن تنظر إلى الوراء وتشعر بالامتنان، لأنه «عند حلول الظلام، كانت دماء آبائهم تجري في عروقهم بقوة».
وبعد عدة عقود، بعد وفاة ريغان، كتب باكلي أنه غيَّر رأيه، وذكر أنه يعتقد أن «اللحظة الحاسمة حانت»، وأن «ريغان لم يكن في الواقع لينشر قنابلنا العظيمة، بغض النظر عما فعله الاتحاد السوفياتي».
وتتطابق هذه الحكاية مع التطور العام في التصورات تجاه فترة رئاسة ريغان. في أثناء وجوده في منصبه، كان ريغان محبوبا أو يخشاه الآخرون بوصفه أحد الصقور، بينما اليوم يجري تذكره على نحو متزايد بوصفه صانع سلام. كما يكشف هذا الوضع حالة عدم اليقين العميق الكامنة في قلب كل محاولة للتحليل والتنبؤ باستخدام الأسلحة النووية.
على مدى ما يقرب من ثمانية عقود، ارتبطت إمكانية نشوب حرب نووية بحسابات استراتيجية معقدة، تتعلَّق بأنظمة القيادة والسيطرة، وتخضع للمناورات الحربية الشاملة. ومع ذلك، فإنَّ كل تحليل يعتمد في نهاية الأمر على عناصر بشرية غير معروفة، بمعنى حال وقوع اللحظة الرهيبة، كيف سيتخذ العنصر البشري قراره الحاسم؟
وتستحق هذه المشكلة إمعان التفكير فيها؛ لأنَّ العالم ربما أصبح الآن أقرب إلى استخدام الأسلحة النووية عن أي وقت مضى، ومدى هذا الاقتراب ربما يعتمد على أوضاع الرئيس الروسي.
من ناحية، يمكن القول إن خطاب فلاديمير بوتين مؤخرا الذي أعلن خلاله عن تعبئة واسعة النطاق في حربه ضد أوكرانيا، دفع الخطر النووي بعيدا بعض الشيء؛ لأنه ألزمه تعميق الصراع التقليدي. ومع ذلك، لطالما ارتبط التهديد النووي دوما في هذا الصراع بشعور روسيا باليأس، وكانت هذه الخطوة من جانب بوتين بمنزلة خطوة تعبر عن اليأس دونما شك. وينبئ افتقار هذه السياسة للشعبية على نحو عميق عن أن حكومة بوتين ستعاني ضعفا أكبر على الساحة الداخلية، مما كانت عليه خلال الحرب حتى الآن، علاوة على أنها لا تعد بأي يقين فيما يخص النجاح العسكري.
في أفضل الأحوال، قد تساعد التعبئة روسيا على التمسك بغزواتها المحدودة والمكلفة للغاية. أما في أسوأ الأحوال، فإنها ستدفع بمجندين بائسين نحو أتون جبهة متهاوية. أما خطاب التعبئة الذي ألقاه بوتين، فكان واضحا في وعده بأنه لن يسمح بالانهيار الكامل ببساطة، حتى لو تطلب ذلك استخدام الأسلحة النووية. من خلال الإعلان عن إجراء استفتاءات في المناطق المحتلة من أوكرانيا، فإنَّ بوتين بذلك يعلن بشكل أساسي أن روسيا تعتزم دمج هذه المناطق داخل أراضيها. ومن خلال تعهده بالدفاع عن الأراضي الروسية «بكل الوسائل المتاحة لنا»، فإنه بذلك يَعد بالدفاع عن الغزوات الجديدة، من خلال ضربات نووية تكتيكية على أقل تقدير.
ويخلق هذا الأمر ديناميكية محفوفة بالمخاطر على نحو غير عادي. نحن هنا لسنا في حالة توازن رعب تقليدية، تهدّد في إطارها قوى نووية كبرى بعضها بعضا بردّ كبير، ويدور الخطر الأكبر هنا حول حدوث سوء تقدير أو حادث بسيط، شبيه بما جعلنا نقترب من الهاوية عدة مرات في الماضي.
بدلا عن ذلك، نقف اليوم أمام صراع نشط وحرب ساخنة، تحاول في إطارها قوة غير نووية الفوز بالاعتماد على القوات التقليدية، في الوقت الذي يحاول الطرف الآخر رسم خط أحمر حال تجاوزه سيجري نشر الأسلحة النووية، ما يعني أنه إذا استمرت الحرب في مسارها الحالي، ووجد الجانب الروسي نفسه محاصرا، فإنه سيواجه خيارا فوريا ما بين استخدام السلاح النووي أو الهزيمة.
ربما يكون الموقف الأكثر شبها بهذا السيناريو من حقبة الحرب الباردة، الفترة التي سعى خلالها فيدل كاسترو لامتلاك الأسلحة النووية السوفياتية للدفاع عن نظامه ضد الغزو، وكذلك طلب دوغلاس ماك آرثر الإذن باستخدام الأسلحة النووية للحيلولة دون تعرضه لهزيمة صريحة في الحرب الكورية. تشبه كلتا الحالتين الحالة الراهنة، ذلك أن التفكير في استخدام الأسلحة النووية لم يأتِ في إطار تبادل ضربات نووية قاتلة، وإنما كتدخل تكتيكي للحيلولة دون التعرض لهزيمة تقليدية.
إلا أنَّ ثمة إضافة في هذه الحالة، هي أن صانعي القرار الرئيسيين، بوتين ودائرته المقربة، يتعرضون لتهديد فوري -بمعنى وجود خطر يهدد سيطرتهم على السلطة وفي نهاية المطاف حياتهم-، من خلال احتمال تعرض روسيا لهزيمة تقليدية في حرب أوكرانيا، على نحو يفوق التهديد الذي واجهته الولايات المتحدة من احتمالات وقوع هزيمة في كوريا، أو التهديد الذي جابهه الاتحاد السوفياتي من خلال احتمال إطاحة كاسترو.
ولا يعني هذا أننا يجب أن نتوقع من بوتين أن يستخدم الأسلحة النووية (وليس واضحا من التسلسل القيادي الروسي مدى قدرته على اتخاذ هذا القرار منفردا)، ذلك أنَّ التهور التاريخي الذي ينطوي عليه مثل هذا القرار، سيحمل في طياته عواقبه التي قد تدمّر النظام -إمكانية التصعيد إلى حرب مباشرة مع حلف الناتو، وتعرض روسيا للهجر التام من أشباه الأصدقاء الباقين والانهيار الكامل لاقتصادها. ثمة رهان معقول بما فيه الكفاية، أنّه حتى في مواجهة الهزيمة، فإنّ بوتين أو نظامه سيترددان إزاء استخدام السلاح النووي.
ومع ذلك، لا ينبغي للمرء المراهنة على اشتعال حرب نووية، بالطريقة التي يراهن بها على نتائج أخرى. لنفترض أنه كانت هناك فرصة بنسبة 20 في المائة «فقط» لكسر المحرمات النووية، سيظل هذا الرقم مرعباً ولا يبعث على الاطمئنان على الإطلاق. وفي حين أنَّ صقور أوكرانيا في الغرب، الذين يميلون في الوقت الحالي إلى التقليل من المخاطر النووية، أدركوا الكثير من الحقائق بشكل صحيح بخصوص هذه الحرب، فإن أحد الأشياء الرئيسية التي كانوا على حق فيها، أن بوتين أكثر ميلا للمقامرة بناء على دوافع آيديولوجية، عن كونه رجل دولة يتميز بعينيه الزرقاوين الباردتين. والآن، ماذا يعني ذلك بالنسبة للخطر النووي؟ لا يبشر بخير.
وعليه، أعود إلى النقطة التي لطالما أشرت إليها طوال هذه الحرب، أن الدعم الأمريكي لأوكرانيا جيد وضروري، لكن ثمة نقطة قد تتباعد عندها أهداف أوكرانيا ومصالح الولايات المتحدة، والجمع بين الاختراقات العسكرية الأوكرانية والتهديدات النووية الروسية، يجعل هذه النقطة أقرب من ذي قبل؛ النقطة التي يرغب الأوكرانيون في الذهاب إليها، بينما نحن بحاجة إلى التفاوض وضبط النفس.
بناءً على هذا الفهم، فإنَّ كييف ربما تكون مستعدة لقبول درجة غير عادية من المخاطر النووية، بل حتى امتصاص ضربة نووية، من أجل الحفاظ على وحدة أراضيها. في معركة من أجل حريتهم ذاتها، يريد الأوكرانيون، تماما مثل باكلي، أن يتطلع أطفالهم إلى الوراء، ويقولون إنه في مواجهة الأزمة الكبرى، جرت دماء آبائهم بقوة.
(الشرق الأوسط اللندنية)