كانت أكثر الدول توترا مع غيرها وأعلى نسبة قطع
العلاقات الدبلوماسية هي مصر الناصرية وليبيا القذافي. فقد توترت العلاقات بين مصر والأردن والسعودية، ثم مصر والسودان وليبيا، ثم قطعت الدول العربية علاقاتها مع مصر بسبب كامب ديفيد.
وتوترت بين مصر والجزائر في عهد مبارك ثم بين مصر السيسي وقطر، وأما ليبيا فقد احتكت بالسعودية ومصر (السادات) والمغرب وتونس والسودان، وقطعت العلاقات السعودية الليبية عندما اشتد التوتر.
كما توترت العلاقات بين قطر والبحرين، وقطر والسعودية، والعراق والكويت (الذي انتهى بغزو الكويت)، وكذلك اليمن والسعودية.
وكان اليمن شماليا وجنوبيا، وتمت الوحدة بينهما ثم قامت حرب بينهما عام 1994. وكانت الجامعة العربية قد علقت عضوية جمهورية اليمن الجنوبي في عدن، وكان ذلك انعكاسا لمناخ الحرب الباردة التي تورطت فيها الدول العربية.
وعندما أبرمت مصر صفقة كامب ديفيد 1979، قررت الدول العربية قطع العلاقات معها على أساس أن الاتفاق الإسرائيلي المصري صلح منفرد، وخروج على الموقف العربي من التقارب مع إسرائيل، للضغط على إسرائيل حتى تتعاون في التسوية مع الفلسطينيين. أما عُمان والصومال والسودان فاستنكرت الصفقة، ولكنها لم تقطع العلاقات مع مصر.
جميع الخلافات والصراعات العربية كانت تخص النظم العربية ولا تخص الدول العربية، ولما كانت هذه النظم هي الدول العربية وتتحدث باسمها، فإن الشعوب عموما سارت وراء حكوماتها سوى في حالة كامب ديفيد، حيث أجمعت الشعوب العربية على رفض صفقة ستمكن إسرائيل على حساب العرب الفلسطينيين.
فالخلاف بين مصر والجزائر مثلا بلغ مدى خطيرا، لدرجة أن شمعون بيريز، رئيس إسرائيل، حاول استغلال الأزمة. وبدأت الأزمة بخطة من أبناء مبارك خلال مباراة مصر والجزائر في السودان، وأشعل إعلام السلطة الفاسد الأزمة، وكانت تلك صدمة للشعب الجزائري، خاصة أن بعض السفهاء في الإعلام الفاسد قد عيّر الجزائريين بخلطهم اللغتين الفرنسية والعربية، وهذه قضية حساسة لأن الجزائر تعرضت لأبشع برامج الاستيعاب مع فرنسا. كانت النتيجة أن الأزمة اقتلعت ما غرسته مصر من دعم لاستقلال الجزائر وثورتها، فتمت مقاطعة كل ما هو مصري، حتى الكتاب والمثقفون مثل طه حسين والعقاد، وكذلك المنتجات الدرامية المصرية التي كانت مع المدرسين. والمقررات الدراسية هي القوة الناعمة لمصر، بعد أن أدت مصر الناصرية دورا فعالا في تعريب التعليم في الجزائر ودعم ثورتها، وتعرضت لانتقام فرنسا.
كما تعرضت العلاقات المصرية الجزائرية إبان كامب ديفيد لهزة عنيفة، عندما اختارت الجزائر الانضمام إلى جبهة الرفض للاتفاقية، وكان ذلك الموقف مهينا لأنور السادات وليس مصر، كما كان موقف الرفض الجزائري تعبيرا عن صمود الجزائر ضد محاولات إسرائيل وواشنطن لتطويع مصر، وربما انتقاما من تقارب مصر من المغرب حينذاك في قضية الصحراء نكاية في الجزائر.
وقد دفع الموقف الجزائري السادات إلى التهديد بتأييد الموقف المغربي في الصحراء الغربية، وكان ذلك لعبا بالنار، لولا أن الخارجية المصرية ردت السادات عن هذا الطريق. ثم أصيبت العلاقات مع المغرب مرة أخرى بضربة من سفهاء الإعلام المصري، بالحملة على النساء المغربيات والطعن في شرفهن. وأخيرا توترت العلاقات بعد تولي السيسي السلطة، قطعا ليس نصرة للإخوان المسلمين رغم أن الإخوان في المغرب وصلوا إلى منصب رئيس الوزراء خلال أزمة الإخوان في مصر، والتفسير الممكن لهذا الجفاء ربما بسبب رفض المغرب للحكم العسكري عموما، رغم صداقة المغرب مع السعودية، ودور السعودية المدعى في عزل د. محمد مرسي.
فالنظم وأجهزتها الإعلامية دخلت في صراعات لا علاقة لها بالمصالح الوطنية لهذه الدول. وقد تجاوبت بعض القطاعات من الشعوب العربية مع نظمها وحكوماتها، ولكن للأمانة بقي الشعب المصري وفيا لكل الشعوب العربية.
كما استنكر الشعب المصري كله زرع أبناء مبارك عام 2010 للفتنة والتحريض ضد الجزائريين، فأضيفت إلى سوءات نظام مبارك، وكانت من أسباب الشحن الجماهيري واندلاع ثورة يناير عام 2011. ونضيف أن ثورتي الجزائر والسودان وموقف النظام في مصر منهما، قد ولد لدى الجزائريين والسودانيين عداءً للنظام وليس ضد الشعب المصري، خاصة عندما فازت الجزائر بكأس الأمم الأفريقية في مصر، وحدثت أزمة مع الفريق الجزائري ومن ورائه جماهير الجزائر، ولكن العلاقات الرسمية والشعبية في البلدين لم تتأثر بهذه الحوادث في البلدين.
وخلال السنوات القليلة الماضية وقعت الأزمة الخليجية بين السعودية وفريقها (البحرين والإمارات ومصر) وبين قطر، ووصلت الأزمة حد فرض حصار على قطر، أحدثت مرارة شعبية في الدول الخليجية الثلاث، وضمن شريحة مؤيدة للنظام في مصر.
في ضوء هذا العرض نقدم الملاحظات الخمسة الآتية:
أولا: أنه كان مطلوبا إسرائيليا وأمريكيا توجيه طاقة العداء لإسرائيل إلى العداء بين النظم العربية؛ توطئةً لقسمة الشارع العربي كل وراء حكومته، فتوقف الصراع مع إسرائيل أو العداء لها، وبدأ الصراع بين النظم العربية، ولذلك كان طبيعيا أن تتداعى الأصوات الشاذة الداعية إلى التطبيع مع إسرائيل. وفي هذا المناخ توغلت إسرائيل في الخليج؛ في السعودية والبحرين والإمارات وقطر وعمان، ولم تنج حتى الآن سوى الكويت. وهذه هي الموجة الثانية المؤيدة لإسرائيل تحت ستار السلام والتطبيع من الخليج.
ثانيا: أن إعادة توحيد الدول العربية لمساندة فلسطين، وليس إسرائيل، يبدأ وينتهي بمصر، فمصر هي التي استسلمت لإسرائيل وضاع
العالم العربي، وكان ذلك كارثة لمصر ومهددا لوجودها ذاته، ولا تملك مصر أن تمنع غيرها من التقارب مع إسرائيل بتعليمات أمريكية إذا كانت هي نفسها مدفوعة إلى ذلك بقدر أكبر.
ثالثا: الصراعات التي عانت منها الشعوب هي صراعات نظم، ولم تكن هناك أي مصلحة للأوطان العربية في هذه الصراعات. والسبب في ذلك هو أن نظم الحكم في العالم العربي كلها تدور حول الحاكم وحاشيته، فهم الذين يتناحرون مع غيرهم لاعتبارات مصلحية شخصية. فعندما بعث السادات الطيران المصري لكي يضرب الشعب الليبي، دفع ذلك القذافي إلى الاحتماء بموسكو التي كانت تعادي السادات، ولم تكن هناك أي مصلحة مصرية لضرب ليبيا.
وكذلك قيام السعودية بتدمير اليمن بحجة أنها تحارب إيران بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، علما بأن العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية في أحسن حال، ولكن المصالح الأمريكية دفعت السعودية إلى تدمير اليمن قربانا للبيت الأبيض، فأين المصلحة السعودية الخالصة في تدمير اليمن؟! وقِس على ذلك حالات الصراع العربي العربي كافة، وأكثرها إيلاما أن يكون ذلك الدمار لصالح إسرائيل، وقد تجلى ذلك ومايزال في ملحمة داعش وتدمير سوريا.
رابعا: أن الإرهاب أصبح بشكل واضح أداة معروفة في صراعات النظم العربية، وتدفع الشعوب ثمن هذه الحماقات، كما أصبح الإرهاب أداة لتخويف الشعوب حتى تنصرف عن جرائم حكامها. ولذلك، فإن العناوين العربية كافة الخاصة بالتعاون في مكافحة الإرهاب، وكذلك الخطاب السياسي للحكام العرب، صار ملهاة في عصر تتحداه العولمة، وتوقظ فيه الشعوب على فجور هؤلاء الحكام.
خامسا وأخيرا: جدير بهذه الشعوب العربية أن تتضامن فيما بينها، وألا تنقسم على وقع صراعات حكامها، وأن تحافظ على الروابط الإنسانية بينها، ويكفيها أنها تدفع ثمن صراعات الحكام. فالحكام زائلون والشعوب والأوطان باقية، ولكن بعض الحكام (إن لم يكن كلهم) يجبرون الشعوب على دعمهم في صراعاتهم ضد الحكام الآخرين، بل وتصدر قوانين لمعاقبة الشعوب الأخرى والأفراد الذين يخرجون على هذه القاعدة، ومصداق ذلك هو التطبيق على حالات الصراع، فالجزائريون مثلا، حتى نخبتهم، يتمسكون بموقف حكومتهم، ويعتبرون الصحراء المتنازع عليها مع المغرب جزائرية، والموقف نفسه بالنسبة للنخب المغربية.
فلا بد أن تدرك الشعوب أن حكامها يتصارعون على أمور شخصية أو استجابة لتخطيط واشنطن، وليس بسبب المصالح الوطنية، وهذا مرض يطيح بالأوطان. ولعل تضامن الشعوب يبقي على الأوطان، حتى إذا شقي الحكام وأذلهم علنا السيد الأمريكي؛ وجدوا وطنا يعودون إليه وشعبا يغفر لحاكمه ضلاله وجاهليته، فيجد من يعطف عليه ويفتح له باب التوبة الوطنية.