أوجزها بالأمس رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان عندما قال: "لقد تأخرنا بالدخول لسوريا" وإذا لم ندخل لسورية فإن سوريا ستدخل إلينا، وهذا ما حدث بالفعل في السنين السبع الماضية وكانت نتيجة ذلك لجوء أكثر من ثلاثة ونصف المليون من السوريين لتركيا.
في بداية الثورة السورية انتهجت تركيا سياسة "الباب المفتوح" واستقبلت عشرات بل مئات الآلاف والملايين السوريين ظناً منها أن الأزمة لن تطول، وسيعود هؤلاء اللاجئون إلى بيوتهم في أشهر قليلة، لكن ومع طول الأزمة واستمرار النزوح واللجوء بدأت تركيا بالتفكير من جديد بهذه المشكلة التي وجدتها بأحضانها، فبدأت بمنع تدفق اللاجئين إلى الداخل التركي منذ العام 2015 وعملت على حجزهم بمخيمات على الحدود داخل الأراضي السورية، وقامت ببناء الجدار الفاصل على طول الحدود السورية لمن التسلل غير القانوني خارج المعابر والبوابات الرسمية.
وكان من أهداف عملية درع الفرات أيضا –بالإضافة إلى الهدف الرئيسي محاربة داعش ومنع الممر الكردي- محاولة تأمين الأمن وبناء البنية التحتية لتحفيز اللاجئين السوريين للعودة، وقد عاد عشرات الآلاف حتى الآن رغم السلبيات التي لا تزال موجودة وتمنع الكثيرين من العودة بمنطقة درع الفرات.
وهذا أيضا من أحد دوافع التدخل التركي بإدلب لمنع أي هجمة نزوح جديدة قد تتعرض لها في حال حدوث اقتتال داخلي بين الفصائل أو تكرار سناريو حلب باستهداف المدنيين والبنية التحتية من قبل الطيران الروسي والنظام .
منذ بداية عقد الهدن والاتفاقيات وجلي العناصر العسكرية الرافضة لهذه الهدن من مناطق مختلفة من سوريا وتجميعهم في محافظة إدلب بدأت تركيا تحسب حساباتها متوقعة أسوأ السيناريوهات لهذه المحافظة، لذلك سعت وأصرت على ضم محافظة إدلب لمناطق "خفض التوتر" ليكون لها دوراً ومنع هذه السيناريوهات التي قد تهدد الأمن القومي التركي.
وأهم هذه السيناريوهات السيئة بالنسبة لتركيا هما سيناريو حلب وسيناريو الرقة، في الأول تم نزوح الآلاف من المدينة وفي الثاني تم دعم منظمة تعتبرها تركيا هي امتداد لمنظمة حزب العمال الكردستاني الذي تخوض معه حرباً ضروساً منذ عدة عقود.
أهداف كثيرة وراء التدخل التركي لإدلب وفي مقدمة هذه الأهداف -بدون أي نقاش- هو قطع الطريق على قوات الحماية الكردية، ومنع تكرار سيناريو الرقة ومحاولة التعويل والاعتماد على قوات الحماية الكردية بذريعة محاربة جبهة النصرة سابقا، فتح الشام حالياً، هذا الهاجس التركي لا يأتي من فراغ ومن فوبيا الدولة الكردية، بل هو نتيجة لوقائع ملموسة، تبدأ من تصريحات ممثل الولايات المتحدة الأمريكية في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، واتهامه تركيا بدعم المنظمات الإرهابية بإدلب، ولا تنتهي عند الخرائط التي تداولتها الحملة الإعلامية في انتخابات شمال العراق، وهي خريطة قديمة جديدة للدولة الكردية التي تبدأ من شمال العراق وتضم عددا من المحافظات التركية والمناطق السورية لتمتد إلى البحر الأبيض المتوسط.
اليوم تركيا تدخل محافظة إدلب "متأخرة" بناء على اتفاقيات أستانة واتفاق الدول الضامنة روسيا وتركيا وإيران، والهدف هو حفظ الاستقرار وعدم التصعيد وخفض التوتر، وليس لمحاربة أي تكوين آخر.
لماذا تأخرت تركيا بالتدخل العسكري بسوريا؟!
لقد أضاعت تركيا والمعارضة السورية، فرصة ذهبية قبل ثلاثة وأربعة أعوام عندما لم تدخل سوريا وقد كانت المعارضة المعتدلة التي تدعمها تسيطر على مناطق شاسعة فيها البترول والمحاصيل الزراعية والمعابر الحدودية، يومها لم يكن تنظيم "داعش" قد ظهر ولم تكن قوات الحماية الكردية قد قويت شوكتها. لكنها انتظرت حتى وصل الحريق مدنها، وبدأ تنظيم داعش بقصف المدن التركية الحدودية، وتمركزت قوات الحماية الكردية في منبج وعفرين.
يُرجع الكثير من المحللين السياسيين والمراقبين هذا التأخر لتغلغل عناصر الكيان الموازي في مفاصل الدولة التركية وتوجيه السياسة التركية من خلال التقارير المضللة والمعلومات الخاطئة والتوصيات المغرضة، وحتى الممانعة وضع العراقيل القانونية أمام القيادة السياسية.
يستشهد أصحاب هذا القول على ذلك بعملية درع الفرات التي انطلقت بعد فشل الانقلاب العسكري مباشرة، وتخلص أجهزة الدولة العسكرية والمدنية من هذه العناصر المعوقة والمعرقلة.
وهذه وجهة نظر صحيحة مئة بالمئة، ولا يمكن الاعتراض عليها.
لكن هل هذا هو السبب الوحيد؟
برأيي هناك أسباب أخرى كثيرة وراء هذا القراءة المتأخرة منها الموقف الأمريكي المعارض، والتدخل الروسي، والحسابات الاقتصادية.
ولكن قد يكون من أهمها القراءة الخاطئة والمتأخرة لكثير من السياسيين والأكاديميين والصحفيين والكتاب وحملة الأقلام الذين يوجهون الرأي العام ويؤثرون على قناعات السياسيين وقراراتهم.
لقد كانت القناعة السائدة لدى غالبية هؤلاء أن سوريا مستنقع خطير، ويجب على تركيا الحذر من الوقوع به، الكل كان يُخوف تركيا من التدخل المباشر بسوريا، ويحذرون القيادة السياسية لعدم المجازفة وجر البلاد لمغامرات لا يحسب عقباها. ويطالبون بالاكتفاء بالدفاع عن تركيا ضمن الحدود الرسمية الحالية.
كانت النظرة السائدة أن أمن تركيا يبدأ من حدود الميثاق القومي الذي تم التوقيع عليه في معاهدة لوزان، بينما اليوم بدأ الكثير يقتنعون أن الأمن القومي يبدأ من أمن الموصل وحلب ودمشق.
اليوم غالبية هؤلاء يدعمون التدخل التركي في درع الفرات ومحافظة إدلب ويقرون أيضا بأن تركيا تأخرت بذلك، لكنها قراءة بعد خراب البصرة كما يقول المثل.
هذه القراءة المتأخرة ليست محصورة بالتدخل العسكري بل هي موجودة في كثير من المستويات الأخرى.
والسبب في ذلك أن غالبية هؤلاء المثقفين والكتاب لا يزالون ينظرون لقضايا الشرق الأوسط- حتى وإن كانت دول مجاورة- من منظور التفكير الغربي والزاوية التي ينظر منها الغرب لقضايا المنطقة، بينما الأولى أن يتم قراءتها قراءة مستقلة من زاوية الجوار الجغرافي وروابط القرابة والدين والتاريخ المشترك.