عندما تحدث الأستاذ يوسف العتيبة، سفير دولة الإمارات العربية المتحدة لدى واشنطن، في محطة PBS الأمريكية قبل أيام عن توجه دول الخليج إلى العلمنة بعد عشر سنوات على الأقل، فهو حتما لا يقصد تحول الأنظمة الخليجية إلى أنظمة علمانية بمعايير حرية مشابهة لعلمانية وحرية السويد أو فرنسا. وحتما لا ينوي الإشارة للسماح بشواطئ العراة وإهمال المساجد واحتمال التضييق على المصلّين وإلغاء مادة الدين من مناهج التعليم. لكن هذا الحديث أو هذه التصريحات أحدثت بالطبع ردود أفعال متفاوتة ضجت بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي.
أنا هنا لا أشير إلى ردود فعل الإعلام المموّل من قطر مع الأسف وإن كان هذا الإعلام هو الذي حرص واستمات في إبراز هذا التصريح، مما جعل البعض منا يعتقد أنه إعلام حكومة «طالبان» وليس قطر، ولكن إلى ردود فعل بعض العقلاء ممن أصابه الهلع والفزع من هذا الحديث. هنا أستذكر من جديد مقولات المفكر السعودي الأستاذ إبراهيم البليهي الذي قال في أكثر من محاضرة وندوة، إن البعض لا ينظر في مجتمع الغرب إلا إلى «سلة الزبالة»، ويتجاهل كل الإنجازات العظيمة الأخرى التي تفوقت بها تلك الحضارات.
الحديث العقلاني اليوم يتمحور حول استمرار أهلية الإتكاء على الأيديولوجيا ليس كمشروعية للدول فقط، بل وتشريع تنطلق منه الأحكام. نتحدث عن انفلات لا حدود له في تغذية التطرف ونشر الخطابات الطائفية والتحريض على الكراهية. هذا هو المشهد السائد في مجتمعاتنا منذ ثورة الخميني، مرورا بكل الأحداث الدامية التي مرت بنا وتخللها بالطبع انغماس فكر ما يسمى بالصحوة الإسلامية في العقول حتى يومنا هذا. نتحدث عن امبراطوريات سقطت بسبب الأيديولوجيا، وما الاتحاد السوفياتي عنا ببعيد. نتساءل وهذا من حق الجميع، ما الذي تحقق من منجزات تنموية وبشرية ومبادرات خلاقة، نستطيع أن نجيرها لمصلحة وجود هذه البيئة في منطقتنا؟ جميعنا بالطبع يعلم أن لا منجز تحقق بل على النقيض تماماً فقد أصّلوا لإراقة الدماء وانتشار العنف «المباح» والتكفير، وتم القضاء على الكثير من المكتسبات المدنية والبنى التحتية، ووصل الدمار بفضل الأيديولوجيا ذاتها حتى إلى الآثار التاريخية العظيمة التي تم نسفها. غابت التنمية البشرية وانحسر التعليم على التلقين والحفظ وغياب المنطق والفلسفة، وتصدّرت المنابر في الغالب الأعم عقولٌ تافهة تتحدث عن خرافات وأكاذيب لا حد لها.
هل يوجد عاقل بيننا اليوم يطالب باستمرار هذا التخلف العلمي والذهني والمجتمعي الذي تسبب في انحسار قيم التنافس والإبداع، ووضع دولنا ومجتمعاتنا في ذيل قوائم المجتمعات النامية في معظم مؤشرات التنمية؟ هل يعقل أن نستمر في عزلة عن العالم المتقدم الذي تجاوز هذه الكوارث مضحيا بالأثمان الباهضة لينطلق إلى البناء؟ بالطبع لا ولذلك فالخيار نحو الدولة العصرية القائمة على الدستور والنظام واستقلال القضاء المقنن الذي يحمي أول ما يحمي المقدسات وحرية الأديان والأفراد ويضمن الحقوق، هو الخيار الوحيد المتاح لنا.
المذهل هنا أن من اعترض على تصريحات السفير لا يدرك أن دول المنطقة المعنية هي في حقيقة الأمر ومنذ عقود تسير نحو هذا التوجه التقدمي وتتبنى العديد من الأنظمة التي يتعارض بعضها لا مع الدين الحنيف، بل مع توجه المؤدلجين ومخططاتهم. تفعل ذلك من دون أن تفتعل أي ضجيج إعلامي لأن مصالحها وشروط بقائها، فرضت التعامل مع المنظومة العالمية وتفرعاتها، وذلك عبر التوقيع على عشرات المعاهدات التي تحكم بين الدول والمنبثقة من الأمم المتحدة.
المتمعن في أهداف رؤية السعودية 2030 لا بد من أن يدرك، أن نجاح المملكة في تحقيق هذه الأهداف اعتمد كثيرا على الانفتاح والتسامح والحريات والتقنين. خلق البيئة الجاذبة للاستثمارات، وبالتالي نمو عدد فرص العمل وارتفاع معدلات دخل الفرد، يعتمد اعتمادا مباشرا على وضوح الأنظمة على سبيل المثال، من بين عدد من العوامل الأخرى المهمة. تخصيص القطاعات الخدماتية كالتعليم والطب وغير ذلك لن ينجح من دون إزالة الضبابية في القوانين التي تحكم العلاقة بين مقدّم الخدمة والمستفيد منها. الدعوة بنجاح إلى زيارة المناطق السياحية بعد ضخ الاستثمارات الكبرى لإعادة هيكلتها وآخرها كما نعلم اليوم «مشروع البحر الأحمر»، تتطلب خبراء من دول متقدمة سبقتنا في هذه التجارب. بل وحتى تشغيل هذه المشاريع بالنجاح وتحقيق الإنفاق والدخل المرتقب، يتطلب تبني لوائح وقواعد وأسسا ومكافآت وعقوبات مدنية خالصة، لا علاقة لها بلوائح من يجتهد من ذوي العقول المؤدلجة الغارقة في الوهم والتخلف والخرافة.
طبعا، مقابل كل هذا التفصيل نجد أن التقوقع والتردد والخوف من مصطلح «العلمنة» سيعيدنا إلى ما قبل نقطة الصفر في مقاييس الدول المعاصرة في هذا الزمان. سيعيدنا إلى تفسير الحداثة من جديد بواسطة كتاب عوض القرني، وترهيب المجتمع من الغرب على طريقة الشيخ سفر الحوالي. يكفي إلقاء نظرة خاطفة إلى نشرات صندوق النقد الدولي والبنوك المركزية وتقييماتها لكل اقتصاد في كل دولة.
في منطقة الخليج تحديدا، كان النفط ومشتقاته بالكميات الكبيرة والأسعار المرتفعة، هو العامل الرئيسي في جبر كل الكسور والإصابات التي يفترض أن تهوي بتقييم اقتصاديات دولنا منذ عقود. اليوم مع هبوط الأسعار وخفض الكميات والحاجة إلى تنويع مصادر الدخل، بدأنا نكتشف العيوب التي تعترض مسيرة التنمية.
إذا، فالتوجه إلى دولة الأنظمة والمؤسسات والدساتير الواضحة وتطبيق المعاهدات الدولية في مواجهة التطرف، والتوقف عن التعاطف مع التفرقة المذهبية ولغة التحريض ومواجهة الفساد، هي المسار الصحيح وتحقيق ذلك ضرورة من ضرورات التنمية والقوة والبقاء. إن كان مسمى نطام كهذا بـ «الدولة العلمانية» هو المثير للجدل، فلنستبدله بمسمى آخر غير ذلك ولا مشكلة على الإطلاق. المهم والأصل أن نتحول إلى كيانات عصرية تشترك مع العالم في مصالحها ومنافعها وقيمها وأنظمتها وعدلها، بكل ما يجلب المنفعة ويقصي الضرر.
الحياة اللندنية