هذا ما يراه الباحث فرانسوا بورقا لمستقبل "داعش" و"الربيع"

قال فرانسوا بورقا، الكاتب والباحث الفرنسي والمختص في العلوم السياسية والجماعات الإسلامية والعالم العربي ومدير البحث بمعهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي، إن ما حصل في الموصل هو "انتصار لمنطق القوة الأعمى" مقابل فشل السياسة في معالجة الدوافع الحقيقية لظهور وانتشار ظاهرتي الغلو والتطرّف.

وأضاف في مقابلة مع "عربي21"، إن تنظيم الدولة لم ينته، محذرا من أن بديله سيكون أكثر تشددا؛ في ظل تعمد القفز على الأسباب الحقيقية التي أفرزتها.

وشدّد بورقا على أنه ليس من الصواب تحميل أيديولوجيا "المُتطرّف" سبب تطرّفه، مُشيرا إلى أن الحكام الغربيين والعرب يعمدون لذلك حتى لا يتم إرجاع الصّراع للمستوى السياسي الذي قد يُحمّلهم جزءا من المسؤولية، وفق تعبيره.

واعتبر الباحث الفرنسي أن حركات الإسلام السياسي هي امتداد لحركات التحرر الوطني في بعدها الثقافي والرمزي، مشيرا إلى أن حركة النهضة في تونس كسبت هذه المعركة في تونس وهو ما يُبرّر عمليّة بحثها عن هويّة جديدة تتماشى مع واقعها الجديد.

وفيما يلي نص الحوار:

تنظيم الدولة لم ينته

* تابعنا أخبار تحرير الموصل والاحتفاء الدولي بهذا الإنجاز.. هل تعتقد أن داعش انتهت فعلا؟

- للإجابة عن هذا السؤال؛ لا بُدّ من العودة إلى جوهر ظاهرة العنف، وما يُسمّ بالتشدّد والغلو الإسلامي. لُب هذا التشدّد هو في الحقيقة نتيجة لفشل مُؤسّسات التّمثيل السياسي في إدارة الموارد المادّية والرمزية للأوطان. بالنّسبة لما حصل في الموصل، نحن إزاء انتصار لمنطق القوة المُطلقة بعد مُقاومة طويلة جدا قد تعجز أي دول أخرى عن الإتيان بمثلها.

ما حدث في الموصل هو أن العالم قدّم مفاتيح أبواب رُكام مدن سنية إلى مليشيات شيعية أو كردية، وبهذا الشكل فقد تمّ التأجيل زمنيا والتوزيع جغرافيا للمشاكل التي لم تقدر المنظومة الدّولية على حلها. في العراق كما في سوريا وغيرها من الدّول المُشابهة لها، طالما لم يتم بناء مُؤسّسات سياسية صلبة قادرة على معالجة الأسباب العميقة للتطرّف في الموصل. انتصرت القوة المُطلقة العمياء وفشلت السياسة.

* الظاهرة الجهادية أو ما يُسمّى بــ"التّطرّف الإسلامي" أثبتت الوقائع أنها لا تختفي وإنما تتحوّل.. ما هو التحوّل الممكن الذي سيشهده تنظيم الدولة؟ وكيف تقرأون مرحلة ما بعد تنظيم الدولة؟

- من الناحية المبدئية؛ أنا لا أحمّل مسؤولية العنف السياسي للأيديولوجيا التي ينتمي لها أو تُعبّر عن عُنف المُتشدّد. الذي يصنع العُنف هو فشل المُؤسّسات السياسية، فهي التي تصنع أفرادا ناشطين سياسيا يُؤمنون بأن السياسة في واقعهم لا يُمكن أن تُمارس إلا بمنظور متشدّد، وعندما يجدون أنفسهم في هذا المناخ يختارون عقيدة مناسبة تتماشى مع مطالبهم.

الذين يُحمّلون العقيدة أو الأيديولوجيا مسؤولية التّطرّف يُخطئون. من يتحمّل المسؤولية هو من يصنع هؤلاء الأفراد الذين يختارون عقيدة تتماشى مع أهدافهم ورؤاهم السياسية. داعش لم ينته والذي انتهى هو هيمنته على رقعة جغرافية مُمتدة. وإذا ما فرضنا جدلا أنه انتهى، فبديله سيكون أكثر تطرّفا بالتأكيد، باعتبار أن المُعالجات قفزت عن الأسباب المُولدة لهذه الظاهرة.

الحُكّام يفهمون جيّدا ظاهرة التّطرّف، ولكن..

* العالم الغربي يتعاطى مع ظاهرتي الإرهاب والتطرف منذ بداية الألفية الثانية عندما ظهر مُصطلح الحرب على الإرهاب.. بعد كل هذه الفترة، هل نجحت المُؤسسات الرسمية في الدّول الغربية في فهم الظاهرة بالشكل المطلوب، وبالتالي رسم سياسات فعالة بناء على هذا الفهم؟

- الحُكّام الغربيون كما العرب يفهمون لب ظاهرة التّطرّف والتشدّد، ولكن يرفضون تبعات اعتماد هذا الفهم. هم يعمدون لإدانة أيديولوجيا العدو لأنهم بهذه الإدانة يرفضون أن يكون بينهم وبين هذا العدو خلاف سياسي. فهم عندما يقبلون أن يكون هناك خلاف سياسي يُقرّون بإمكانية تحمّلهم جزء من المسؤولية، وهو ما يتم تحاشيه من خلال اعتماد أسهل الحلول، وهو رفض النّظر إلى جوهر الخلاف واختزال كل أسبابه في الأيديولوجيا. المُؤسّسات الغربية تفهم أن جذور "الغلو الإسلامي" لهذه الجماعات تعود تاريخيا لغلو التواجد الغربي في العالم الإسلامي، لكنها لا تريد أن تتحمّل تبعات هذا الفهم.

* مُؤخّرا، صرّح الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن "معاداة الفكر الصهيوني شكل من أشكال معاداة السامية"، كيف تقرأون هذا التصريح وما هي استتباعاته على مُستوى السياسة الخارجية وحتى الداخلية الفرنسية؟

- يُجمع عدد هام من المحللين الفرنسيين على أن هذا التصريح هو الخطأ الثاني لماكرون فيما يتعلق بملف العلاقات الخارجية. الخطأ الأول كان حول الموقف الفرنسي من الملف السوري، خاصّة عندما برّر تغير هذا الموقف بأن بشار الأسد هو عدو لشعبه وليس لفرنسا، وهو أمر غير مقبول من فرنسا التي تٌقدّم نفسها كبلد حقوق الإنسان.

فيما يتعلّق بهذا التّصريح، ما رفضته شخصيا أنه تزامن مع حديثه عن ضرورة حماية الأقليات، فمنطقيا حتى تحمي الأقليات لا بد من حماية الأغلبية. ماكرون قال إن فرنسا لها مسؤولية مباشرة في ضرب اليهود في فرنسا في الأربعينات، لذا ندعم من يقتل الفلسطينيين! طيب أين الرابط بين التصريحين؟ أين المنطق في هذا؟ هذا التّصريح في الحقيقة يُمثّل خطورة على اليهود الفرنسيين لأنه سيُحمّلهم مسؤولية كل التجاوزات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين. ماكرون بهذا التصريح أتم الجزء المُتبقّي من ملامح السياسة الخارجية الفرنسية في ظلّ الإدارة الحالية؛ بعد تصريحاته حول مالي وسوريا وقطر والجزائر والقارة الإفريقية.

من المُبكّر الحكم على الربيع العربي.. ومتفائل بمستقبل شعوب المنطقة

* في ظل الانتكاسات المُتواصلة التي شهدتها أغلب الدّول التي التحقت بركب الربيع العربي وتراجع حماسة الدّول الغربية للتغيير في الدول العربية وحق الشعوب في العيش في بيئة ديمقراطية.. هل يُمكن القول بأن الثورات المُضادّة كسبت المعركة؟ هل انتهى الربيع العربي؟ وإلى أين تسير الدول العربية في المستقبل القريب؟

- منهجيا؛ يجب عدم حصر موجة الربيع العربي في سنتين أو ثلاث. الربيع العربي أطلق مرحلة مهمة في هذه المنطقة لكنها تتقدّم وفق موجات، موجات تحرّر أعقبتها موجات مُضادة، ونحن نمر الآن بفترة ارتفاع للموجة المُضادّة في ظلّ انتصار ظرفي لما أسميه جمعية "دكتاتوريات العرب بلا حدود".

المنطقة تمر مُؤقتا بموجة لصالح الدكتاتوريات، لكن ستعقبها موجات أخرى لصالح الشعوب التي خسرت معركة، ولكنها لم تخسر الحرب. أنا مُتفائل بمُستقبل هذه المجتمعات رغم النكسات، لكن أنا متشائم الحقيقة بمستقبل المُجتمعات الغربية في ظل ارتفاع صوت تيارات الانغلاق.

* ونحن نتحدّث عن إخفاقات الربيع العربي، يظل النّموذج المصري أبلغ النّماذج على الإطلاق.. في تقديركم هل فشل الإخوان المُسلمون في مصر أم تم إفشالهم؟

- الاثنان معا، لكن نسبة الإفشال أكثر من الفشل. الإخوان في مصر أخطأوا عندما بالغوا في ثقتهم بالأطراف الغربية وظنوا أنها ستسهر على احترام نتائج الانتخابات.. أخطأوا عندما ظنوا أنهم امتلكوا مفاتيح السلطة في حين أنهم كانوا بعيدين عن ذلك.. أساؤوا قراءة نتائج الانتخابات وأساؤوا قراءة موازين القوى.

النهضة تبحث عن هويّة جديدة تُحقّق توازنها

* حركة النهضة كانت قد أعلنت خلال مُؤتمرها السنة الماضية أنها لا تنتمي إلى الإسلام السياسي، وأن هذا التوصيف أطلق عليها ولم تُطلقه على نفسها.. وفي ظل الهجمة على الأحزاب المُصنّفة ضمن التيار السياسي.. هل تعتقد أن باقي الحركات الإسلامية المُؤمنة بالعملية الدّيمقراطية مُطالبة بالمثل حتى تنأى بنفسها عن تصنيفها في نفس الخندق مع الحركات التي لا تُؤمن بها؟

- أنا حاليا أعمل على هذا الموضوع، وأحاول أن أجيب عن هذه التّساؤلات. لكن عموما لا بُدّ من تفكيك ظاهرة الإسلام السياسي. من يعتقد أن هنالك حزبا إسلاميا له برامج واضحة؛ يُخطئ. أنا أعتقد أن الحركات الإسلامية هي امتداد للحركات التحررية التي تصدّت للتواجد الغربي في فترة الاستعمار، فبعد الاستقلال السياسي والاقتصادي ظهرت الحركات الإسلامية، وحملت على عاتقها موضوع الاستقلال الرمزي والثقافي.

عندما نقرأ حركات الإسلام السياسي على أنها امتداد لحركات التحرر الوطني في بعده الثقافي يُمكن أن نرسم حدودا لمجالات فعلها. بالنسبة لحركة النهضة في تونس، نجحت نسبيا في كسب معركة الحريات، وخففت من تدخل الدّولة في الشأن الديني، وتراجعت إلى حد كبير التضييقات على المُتديّنين، وهي أهم معركتين خاضتهما النّهضة منذ تأسيسها، ما يجعلها اليوم مُطالبة بأن تبحث لنفسها عن محاور عمل جديدة تعطي لوجودها معنى، وأهمها تحقيق التنمية الاقتصادية.

صحيح لا تزال هنالك أخطار مُحدقة بالتجربة التونسية لكن يمكن، القول بأن النهضة في تونس تجاوزت مرحلة الاستقلال الرمزي والثقافي، وهو ما يُفسّر حالة التحول التي تعيشها، بل يُفسّر حالة البحث عن توازن جديد ورسالة جديدة تضمن بها ديمومتها في ظل الواقع التونسي اليوم.

كل ما سبق يخص الحركة الإسلامية في تونس بما تحمله من خصوصيات، ولا يُمكن أن نسحبه على باقي التجارب؛ لأنها ورغم اشتراكها في المبدأ تختلف في الجوهر باختلاف البيئة التي تعيش فيها وتتعاطى معها.