تختلف حدة الأدوات
الاقتصادية المستخدمة في الحروب الاقتصادية، حسب طبيعة الصراع وحدته، منها اللين الذي لا يتعدى العقبات والعراقيل، ومنها الخشن مثل العقوبات والإغراق، وعلى الرغم عن الحديث الدائر على مدار العقود الماضية عن حقوق الإنسان، والعولمة، وحرية التجارة، إلا أن عام 2014 كان مليئًا بالأحداث التي تندرج تحت عباءة الحروب الاقتصادية.
وإن كان أزمة انهيار أسعار
النفط تمثل نهاية المشهد في عام 2014، إلا أنها لم تكن الوحيدة، لقد حفل العام بمجموعة من أدوات الحروب الاقتصادية، كان الفاعل فيها بشكل رئيس أمريكا والدول الغربية، وكان الطرف الآخر، عادة دولا نامية، ولكن ما يمكن استنتاجه أن أدوات الحروب الاقتصادية جديرة بانهاك الدول، وتصدع بنيانها السياسي. وفيما يلي نرصد بعض صور أسلحة الحروب الاقتصادية التي شهدها عام 2014.
انهيار أسعار النفط
تشكو الدول النامية بصفة عامة من جور الدول المتقدمة في استنزاف مواردها الطبيعية، وعدم تقديم السعر العادل لها في السوق الدولية، ولعل ما حدث في السوق العالمي للنفط يبرهن على صحة حجة الدول النامية، فبين عشية وضحها بدأت سلسلة انهيارات غير مسبوقة في أسعار النفط، وصلت لنحو 40% مما كانت عليه الأاسعار بنهاية يونيو 2014.
ومع نهاية 2014، لازالت أزمة انهيار أسعار النفط، تلفح بلهيبها وجوه الدول النفطية، وبالأخص
روسيا، التي تسببت لها الأزمة فيما يمكن وصفه دون مبالغة بانهيار اقتصادي، ستظهر آثاره بوضوح إذا ما استمرت الأزمة للنصف الأول من عام 2015. لقد وصفت أزمة انهيار أسعار النفط بالمؤامرة الدولية من قبل القادة الإيرانيين، ولكن الرئيس الروسي بوتين كان أشد تحديدًا للاعبين الأساسين في المؤامرة على بلاده عبر أزمة النفط ووجه الاتهام لأمريكا والسعودية.
لقد لجأت أمريكا وأوروبا لسلاح النفط في حربها الاقتصادية مع روسيا، بعد أن هددت روسيا بمنع تدفق الغاز الطبيعي لأوروبا وأوكرانيا، كورقة ضغط في الأزمة الأوكرانية، ولكن أوروبا وأمريكا لجأتا للسوق الدولية لإفساد المخطط الروسي، ولتحول النفط من ورقة ضغط لدى روسيا إلى أداة لذبح الاقتصادين الروسي والإيراني معًا.
العقوبات الاقتصادية
العقوبات الاقتصادية هي من أوضح أدوات الحروب الاقتصادية، ومنذ عقود هناك عدة دول تخضع لعقوبات اقتصادية من قبل أمريكا وهي كوبا وكوريا الشمالية وإيران، والسودان، ولكن عام 2014 شهد إضافة ضيف جديد لنادي المعاقبين اقتصاديًا من قبل أمريكا وشاركتها هذه المرة أوروبا.
والضيف الجديد هو روسيا، وترتب على العقوبات الاقتصادية انهيار عملتها الوطنية بنسبة تصل إلى 40%، وكذلك انهيارات كبيرة في سوق أوراقها المالية، وخروج بعض الاستثمارات الغربية من روسيا، مما ترتب عليه ركود كبير، وفقدان روسيا لنحو 100 مليار دولار من احتياطياتها النقدية.
إلا أن أكبر خسارة منيت بها روسيا -وإن لم تأت من باب العقوبات الاقتصادية- هي أزمة انهيار أسعار النفط، فالباب الظاهر الذي لدغت منه روسيا اقتصاديًا، هو آليات العرض والطلب، ولكن الباب الحقيق، الذي لا يحتاج إلى دليل هو أن ما يحدث في سوق النفط، هو حرب اقتصادية أداته سعر النفط.
حرب العملات
ثمة صور عدة شهدهما عام 2014 لما يمكن ادراجه تحت عنوان حرب العملات، الأول وهو ما يحدث من حرص من قبل الاتحاد الأوروبي لتخفيض قيمة اليورو لمعدلات تؤدي للإضرار بحائزي اليورو خارج أوروبا، حيث تحتفظ العديد من الدول بجزء من احتياطياتها من النقد الأجنبي باليورو كنوع من الحماية من الوقوع في شرك اعتماد الاحتياطي على عملة واحدة.
والصورة الثانية، هي توجه الصين نحو التوسع في استخدام عملتها في تسوية تجارتها الخارجية مع العديد من الدول، وإن كانت الأمور في نطاق ضيق، ولكن الأمر يُقرأ على أنه نوع من التخلص من سيطرة الدولار على مقدرات تسوية التجارة الدولية، ومن ناحية أخرى، اتجاه الصين لتدويل عملتها، ولحماية رصيدها الضخم من احتياطي النقد الأجنبي الذي وصل إلى 4 تريليون دولار، حتى لا يكون مجرد ورق مطبوع.
وقد اعتمد البنك المركزي الصيني سياسة توسع استخدام اليوان في تسوية المعاملات التجارية في الخارج، وتم بالفعل توقيع اتفاقيات بهذا الخصوص مع قطر والاتحاد الأوروبي مؤخرًا وغيرهما من الدول، وإن كانت هناك دعوات لأن يكون اليوان أحد العملات المكونة للاحتياطيات النقدية لدول العالم، بعد هذا التمدد الكبير للصين تجاريًا واقتصاديًا.
وفي الوقت الذي تقبل فيه أمريكا وأوروبا دخول اليوان كعملة دولية، فإنهما ومنذ بداية عام 2000 يطالبان الصين برفع قيمة عملتها، وترفض أمريكا بشدة دعوة الصين للبحث عن عملة رئيسة لتسوية التجارة الدولية كبديل للدولار.
وعلى غرار اليابان وأمريكا، أعلن البنك المركزي الأوروبي تبنيه لبرنامج تيسير كمي بنحو تريليون يورو، وهو ما أدى إلى مخاوف في السوق العالمي حتى من قبل دول أوروبية مثل ألمانيا، وبخاصة إذا ما لجأ المركزي الأوروبي إلى طباعة النقود لتمويل البرنامج، كما فعلت اليابان مؤخرًا، وكما فعلت أمريكا في عام 2010.
وتتخوف باقي دول العالم من أن تخرج هذه الأموال من أوروبا إلى أسواق الأوراق المالية في الدول النامية والصاعدة، فتؤدي إلى مضاربات محمومة، وارتفاع لمعدلات التضخم بهذه الدول، لذلك تتحسب بعض الدول لهذا التصرف من خلال رفع معدلات الضرائب على الأموال الساخنة في بورصاتها.
الحد من الصادرات
لعل هذه الآلية من أقل آليات الحروب الاقتصادية في العصر الحديث، وإن كانت روسيا قد استخدمتها في عام 2010 لظروف الاضطرابات المناخية في ذلك الوقت وكذلك العديد من دول أوروبا الشرقية التي كانت تتبع الاتحاد السوفيتي سابقًا، كما فعلت مصر نفس الشيء بمنع تصدير الأرز إبان أزمة الغذاء العالمي عامي 2006 و2007 بزعم نقص المياه.
ولكن روسيا عادة في ديسمبر/ كانون الأول 2014 لتمارس نفس الآلية، عبر تقديرات مجلس الحبوب الروسي، والذي رأى وقف تصدير الحبوب للخارج، والاقتصار على الوفاء باحتياجات البلاد منها، في ظل ظروف الأزمة الاقتصادية التي تعيشها، ويتوقع أن يؤثر قرر مجلس الحبوب الروسي سلبيًا على كل من إيران وتركيا ومصر، كأكبر دول مستوردة للحبوب من روسيا. وهو ما سيعرض هذه الدول للجوء لتدبير احتياجاتها عبر العقود العاجلة، وهو الأمر الذي سيكبد اقتصاديات هذه الدول مليارات الدولارات.
حماية التجارة
لا تكف مختلف الدول عن استخدام أدوات حماية التجارة سواء كان ذلك عبر الآليات الجمركية، أو غيرها، وإن كان هناك توظيف لاستخدام أدوات التجارة لأغراض سياسية وأخرى اقتصادية بحتة. فعلى سبيل المثال فرضت رسوم إغراق في مصر على واردات الحديد التركي، بعد التوترات السياسية بين البلدين.
وإن كان عام 2014 قد بدأ بنزاع أمريكا صيني، باتهام أمريكا للصين بمخالفة اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، بفرضها رسوم استيراد على أحد منتجات الصلب الأمريكي، ولا تنتهي النزاعات التجارية بين البلدين، فمن قبل فرضت الصين رسوما تصل إلى 21% على السيارات المستوردة من أمريكا، إلا أن أمريكا انتزعت حكما من منظمة التجارة العالمية في مايو 2014 يفيد بأن الإجراءات الصينية تخالف اتفاقيات منظمة التجارة العالمية.
كما قامت اندوسيا والهند خلال عام 2014 بفرض رسوم وقاية ضد صادرات أمريكية، في مجالات الغذاء والزراعة في اندونسيا وفي مجالات صناعية بالهند، وهو ما دعا أمريكا لتقديم شكاوي لمنظمة التجارة ضد اندونسيا والهند، وادعت أمريكا بأن اندونسيا تعطي مزايا تفضيلية لمنتجاتها المحلية ضد المنتجات المستوردة، وتضع عراقيل وشروطا صعبة التنفيذ في مجالات ترخيص الاستيراد الخاص بالواردات الغذائية والزراعية.
كما قام روسيا بفرض رسوم اغراق على واردات الحافلات من إيطاليا وألمانيا، وعلى إثر ذلك تقدم الاتحاد الأوروبي بشكوى ضد روسيا في منظمة التجارة العالمية، ويأتي التصرف الروسي تجاه المنتجات الأوروبية في إطار الصراع الاقتصادي بينهما، والذي اتخذ صورا متعددة منذ الأزمة الأوكرانية.