العنوان
واعِدٌ بكثيرٍ من الضحك المرير، وذلك أنّ مفردة "مَسخَرة" تعني أصلًا كما
هو معروفٌ موضعَ السخرية، وقد تُطلَق على عملٍ فنّيٍّ – مسرحيٍّ بالأخصّ – ساخرٍ، وهي
إلى ذلك تكتسب في التداوُل المصريّ ظلالًا من السخط والغضب. وما هي إلا أن ننظُر في
الفهرس لنكتشف أنّ الاسمَ يُحيلُنا إلى وجود أربعٍ وعشرين قصّةً بين دفّتَي الكتاب.
فإذا ما أتينا عليها كلِّها تيقّنّا أنّ كاتبَنا قد نجح تمامًا في أن يُطلِق من صدورنا
حزمةً من أمَرِّ ضحكاتنا وأشدّها سُخطًا وغضبا، أي أنها ينطبق عليها شطرُ بيت المتنبّي
"ولكنّه ضحِكٌ كالبُكا".
فالقصة
الأولى "تيتانيك في خورشيد" تبسُط أمامَنا قضيّةَ الفنّان الكبرى: أن يسعى
جاهدًا إلى تغيير المصائر وخَلق الشخصيات خَلقًا آخَر. هذا ما يفعلُه الكاتبُ الدراميُّ
وهو يستلهِم التاريخَ فيطلعنا على شخصياتِه من زوايا لم تخطر ببالِنا فكأنه يخلقُها
من جديدٍ، والنحّات إذ يختار لموضوع منحوتته وضعًا محددًا يراه جديرًا بأن تَخلُد فيه
المنحوتةُ فكأنه يخلقُها على نحوٍ مغايرٍ لما ألِفناه، وقِس على هذين المثالَين.
أما
في هذه القصة بالذات فالفِلم الأشهر "تيتانيك" يتماهى مع حاضر الراوي وتاريخِ
منطقتِه الاسكندرية في آنٍ، إذ يحرصُ الراوي على مشاهدة الفِلم في كل دُور السينما
بإسكندريتِه، ليكتشف أنّ نظرة البطل جاك/ ليوناردو دي كابريو وما تشفُّ من مشاعرِه
تختلف من عرضٍ إلى عرضٍ، إلى أن يُدرِك في أحد العروض أنّ جاك يُهيبُ به – بوصفه كاتبَ
سيناريو أخفَقَ في تسويق ما كتبَ لدى شركات الإنتاج – أن يغيِّر مصيرَه الذي كتبَه
عليه الفِلم (ميّتًا غرَقًا في مياه المُحيط تضحيةً في سبيل روز/ كيت وِنْسْلِت).
يتداخل
عالَم تيتانيك في عالَم تحوُّلات العُمران في بقعةٍ سكندريةٍ معينةٍ (من سينما إلى
مصنع نسيجٍ إلى أرضٍ خربة)، وما نكتشفُه في الأسطُر الأخيرة أنّ الراوي قد أخفقَ في
تغيير أيّ شيءٍ، سواءٌ أكان خياليًّا – إذ غرق جاك مُجدَّدًا – أم واقعيًّا، إذ تسارعت
التحوُّلاتُ القبيحةُ أمامَ ناظرَيه وهو يغرقُ هو الآخَر في الطوفان الذي فاض في مجرى
المحمودية.
وهكذا
نستفتح المجموعة متيقّنين من إخفاق مَساعي الفنان، ولمّا كان الفنانُ إنسانًا يمارسُ
بشغفٍ وتجرُّدٍ أخصَّ ما في الوجود الإنسانيِّ من الخصائص – الخيالَ – فإنّ الإخفاقَ
هنا إخفاقٌ للإنسانية، فما حدثَ هو ضربةُ لازِبٍ ولا سبيلَ إلى تغييرِه، مصداقًا لما
يقولُه المعرّي في بيتِه الشهير: "قضى اللهُ فينا بالذي هو كائنٌ/ فتَمَّ وضاعت
حكمةُ الحُكماءِ".
اظهار أخبار متعلقة
والقصة
الأخيرة (جثّة) تضعنا في مواجهةٍ ساخرةٍ ساخطةٍ مع جلال الموت نفسِه. فالإخوة الثلاثة
أصحاب المراكز الاجتماعية العالية يقعون في خطأٍ غير مقصودٍ، منبعُه تعجُّلُهم الخَلاصَ
من واجب تلقّي العزاء في أبيهم، فيقفون في المقابر ثلاث ساعاتٍ لتلقّي العزاءِ في جثمان
خادم المقهى، ولا يدركون ذلك إلا حين يصلُ جثمانُ أبيهم بسيارة الإسعاف نفسِها، ولأنهم
يَخشَون الفضيحةَ والسخرية المجتمعيةَ يتعاملون مع الموقف كما لو كانت جثةُ أبيهم هي
جثةَ خادم المقهى الفقير، والعكس بالعكس، ويأمرُ أكبرُهم الممرِّضَ بدفن جثة الأب الحقيقية
في مقابر الصدَقة.
وبين
المفتتح والخاتمة يسخر كاتبُنا تارةً من نماذج بشريةٍ محددةٍ وتارةً من المجتمَع ككُلّ.
فالسخرية من المجتمَع تتجلى في قصصٍ مثل "ماكينة حلاقة" التي يتهكم فيها
على ازدواجية موقف المجتمَع من الممارسات المختلفة، حيث يستخدِم الحلّاق الماكينةَ
الجديدةَ في بيوت أصحاب السُّلطة ويتعاملُ معها الجميعُ أفرادًا، فيما يبدو أنّ الموقف
الرسمي لمجتمَع القرية هو تجريم استخدامِها، وفي أثناء هذا النقد اللاذع يسخر من نموذج
الموظّف نصف المتعلّم الذي يتثاقَف ويُفتي في كلّ شيء، والحلّاق الجاهل بطيء الفهم
الذي يؤمن بذلك الموظّف إيمانًا تامّا! ونلمح في مثل هذه القصة نفَسًا من أنفاس يوسف
إدريس في قصصه عن ريفِ مصر، حيث يضع على لسان الراوي تعبيراتٍ تخُصُّ ثقافةَ الشخصيات،
خالقًا تماهيًا لا يخلو من سخريةٍ بين الراوي وشخصيات الحكاية، فيقول عن الموظَّف المتثاقف
إنه يعود من عملِه "مَشيًا، للحفاظ على العُمر (الانفرادي) للدراجة." قاصدًا
الافتراضيَّ بالطبع، واضعًا المفردةَ البديلة بين قوسَين في غمزةٍ للقارئ يلفتُه بها
إلى التندُّر على ما تتّسِم به الشخصية من جهلٍ مركَّب.
أمّا
القصص التي يبدو هدفُ سخريتِها الأول هو الأفراد – وإن كان بالطبع ينعكس على المجتمع
في تمامِه – فمنها "مَهر افتراضي" التي تسخر من عالَم "المؤثِّرين Influencers" أصحاب قنوات يوتيوب التافهة المحتوَى الذين يتسابقون في حصد
أكبر عددٍ ممكنٍ من الإعجابات وفي حشد المُعجَبين من خلال أفعالٍ خرقاء تمثِّل مُثيراتٍ
لحظيةً سهلة التلقّي ومضمونةً في جذب المتفاعِلين معها، كالاشتباك مع ممثّل مشهور أو
تصوير أجزاء من أجساد الممثلات على السجادة الحمراء في مهرجانات السينما. والملاحَظ
هنا هو أنّ حِيَلَ أبطال القصة الثلاثة تدور حولَ العنف والجنس دون أن تقعَ فيهما حَقًّا،
فأحدهما يفرض نفسَه على الممثِّل مستفزًّا إيّاه ليَضربَه، والثاني يصوّر المؤخِّرات
كما ألمَحنا إلى ذلك، والثالثةُ (سماح هرَم) ترقصُ في الأماكن الأثرية الفرعونية والإسلامية
وتختار لنفسِها اسمَ شُهرةٍ يدعونا إلى تأمُّل هذا السُّقوط ضاحكِين، وفي ذلك إلماحٌ
إلى الحالة ما بعد الحداثية التي تتصدّر فيها المَشهدَ الوجوديّ صُوَرُ الأشياءِ لا
الأشياء ذاتُها، فالحقائق غائبةٌ وليس ثَمّ إلا إيهامٌ مركَّب.
ومن
هذه القصص كذلك "أهل الخير" التي تسخر من تكالُب الدُّعاة الرسميين على الظهور
في الإعلانات المتَلفَزة الداعية إلى التصدُّق والتكافُل. وفي مقابلِها تأتينا قصة
"الملقّن" لتَسخَر من "الشيخ" الشعبيّ المتذرّع بالخرافة والإغراق
في الغيبيّات، ذلك الذي يُفلِح في إيهام بعض الناس وإرهاب البعض الآخَر بأنّ مَن يلقِّنُه
الشهادتَين – حتى بعد موتِه! – يضمن مقعدَه من الجنة، فيبتزّ أهل قريتِه بهذا الشكل
ليُغدقوا عليه الهِبات باسمِ موتاهم الذين أتَوهم في المنام وأوصَوهم بإهدائه الغاليَ
والثمين!
ويستمر
هذا الخيط في قصة "الندواتي" التي تسخر من نموذج محدد في الوسط الأدبي، يحرص
على حضور حفلات توقيع الأعمال الأدبية ويحتفظ لنفسه بالتعليق الأخير في كلٍّ منها ليوافق
على الملاحظات الإيجابية التي أبداها مَن سبقوه فيخلق لنفسه محيطًا من الصداقات، وفي
"المتحرّش" التي توقِع انتقامًا إلهيًّا بتلك الشخصية الكريهة، وفي
"تحت التهديد" التي ترسم صورةً نابضةً بالحياة للزوج المستأسِد على امرأتِه
الذي يبدو أنّ مفهومَه عن الرجولة يتمحور حول العنف الجسدي.
والمهم
أنّ هذا الخيط يذكّرني بمؤلَّفٍ رائدٍ لثيوفراستُس تلميذ أرسطو وخليفته على المدرسة
المَشّائيّة، هو "عن الشخصيات الأخلاقية" Ἠθικοὶ χαρακτῆρες الذي يرسم فيه صورًا ساخرةً لثلاثين شخصيةً، من بينها البخيل والثرثار.
وفي تقديري أنّ هذا الخيط كان جديرًا بإفراد مجموعةٍ قصصيةٍ له وحدَه، خاصةً أنّ ملامح
السخرية هنا أصيلةٌ متفرّدة، على غرار إخفاق الراوي في "الندواتي" في تنفيذ
مؤامرته على بطل القصة، ونجاح البطل في الخروج من المَقلَب منتصرًا، فيسخر الراوي من
نفسِه، لكننا لا يخفى علينا ما في ذلك من إلماحٍ إلى الموهبة الوحيدة التي يتمتع بها
"الندواتي" في مقابل افتقارِه إلى أيّ أصالةٍ في النظر إلى الأعمال الأدبية،
وهي موهبةُ المجامَلة بلا حدود، فتبدو كأنها تعويضٌ ربّانيٌّ له عن ذلك الافتقار!
وبخلاف
هذه القصص تبرُز أخرى تتخذ موضوعَ سخريتِها معانيَ مجرّدةً وتمثلاتِها في الواقع، ففي
"سبعة دروس في الحُب" يعنوِن الراوي دروسَه هكذا "لا تكتب خطابات –
لا تصف ملابسَها الداخلية – الحب أهم من التكافؤ، إلخ" وفي كل درسٍ نكتشِف أنّه
يقصُّ علينا محاولتَه إقامةَ علاقة حُبٍّ مبنيةٍ على مشاهداتِه التلفازية من أفلامٍ
ومسرحيات، وتبوء المحاولةُ دائمًا بالفشل. والشاهد أنّ الحُبّ هنا مُنتَجٌ حَداثيٌّ
مصنوعٌ، وأنه يبدو هدفًا مبالَغًا في مثاليتِه وأهميتِه حين نتفحّص مآلاتِه الواقعية.
وفي
"خطيئة تشيكوف" يسخرُ كاتبُنا من تقاليد الكتابة الأدبية نفسِها، فإضافةً
إلى كونِ القصةِ تنتمي إلى الأدب المُحيل إلى ذاتِه (ميتا- سَرد) – حيث يُورِد الكاتبُ
نصيحةَ تشيكوف الشهيرةَ عن البندقية التي إن ظهرَت في الفصل الأول من المسرحية فينبغي
أن تُطلَق في الثاني أو الثالث، وإلا فلا داعي لتعليقها على الحائط من البداية، يوردها
بصياغةٍ ساخرةٍ "مسمار – يشنق به البطل نفسَه"، ثم يقول بلسان الراوي إنه
ليس بطلًا، فليس مضطرًّا إلى قتل نفسِه بالمسدس الذي وجدَه في قاع التوكتوك الذي ركبَه
ذاتَ يوم – فإنه يخلق حبكاتٍ ثم ينسخُها، ويستدعي تشيكوف بشحمه ولحمه في نهاية القصة
في ظهورٍ شرفيّ. والخلاصة أنه يُبرز هنا ما ينطوي عليه فِعل الكتابة نفسُه من عبثية.
وفي
"طَلُوقة" يَعرِض لنا حالَ الثور الذي يُربَّى لإخصاب الأبقار، مؤنسِنًا
إيّاه ومتابعًا رحلتَه إلى أن يقعَ في حبّ بقرةٍ "صفراء فاقعٍ لونُها" تشاركُه
الحظيرة، فيرفض إتيان الأبقار التي يأتون بها إليه، فيُقتادَ ليُذبَح، وتنتهي القصة
وهي تعِدُنا بأن تُذعِن البقرةُ لنداء الطبيعةِ وتخضع للثور الجديد، ناسيةً ذلك الذي
راح ضحيةَ حُبِّها! وفي "سعاد خمسة متر" يخبرُنا عن أمينة مخزن المخلّفات
بالمستشفى الحكومي، تلك البالغة الجَمال الكريهة الرائحة لإصابتها بعدوى بكتيريةٍ في
مناطقِ جسدِها الحميمة منذ بلوغِها. والشاهد في هاتين القصتين أنّ موضوع السخرية قد
يكون هو الطبيعةَ نفسَها بما زرعَته في الأحياء – بشرًا وعجماواتٍ – من نداءاتٍ ونقائص
عضويّةٍ تدعو إلى الشفقة وإلى الضحك المرير في الوقت ذاتِه.
اظهار أخبار متعلقة
بيد
أنّ هناك خيطًا آخَرَ لا ينبغي أن نُنهي هذه المراجعة المختزلة دون أن نُشيرَ إليه،
هو خيط التبرُّم بالحالة ما بعد الحداثية التي تشوشَت فيها المعايير واختلطت الأمور.
وقد رأينا منها طرفًا في "مَهر افتراضي"، غير أنّ لدينا قصتين منذورتَين
لوصف هذه الحالة هما "باعوا القضية" و"مُريدُ السندباد"، ففي الأولى
نرى الأيدي الخفيّة التي تحرّك القلاقل والثورات في العالَم وفي الثانية يتداخل زماننا
في زمان الخلافة العباسية في بغداد، ونرى السندباد عائدًا من رحلةٍ في أوربا وأمريكا،
يبشِّر قومَه بأعاجيب ذلك العالَم الغربي.
ختامًا،
يبدو لي الخيطُ الساخرُ العميقُ الذي ينتظم قصص المجموعة جديرًا بدراسةٍ أطول لعُقَدِه
وانفراجاتِه والحِيَل السردية التي استخدمها الكاتبُ لينسج منه ساعاتِه الأربع والعشرين،
غيرَ أنّ الملاحظةَ التي لا أجد مفرًّا من إبدائها هي أنّ المجموعة تبدو منقسمةً إلى
مجموعاتٍ أصغر، تهتمُّ كلُّ مجموعةٍ منها بمحورٍ ما، وتصلح نواةً لمشروعٍ أكبر. لكنّ
الانطباعَ العامّ الذي تتركُه المجموعةُ يتأطّر بمفتتحها وختامِها، فالعبث يضربُ أصلَ
كلّ سعيٍ إنسانيٍّ، والموتُ نفسُه منتهَكٌ بالسخرية، والدعوة مفتوحةٌ للقارئ ليكتُب
ملهاتَه الخاصةَ في مساحةٍ تركَها له الكاتبُ في ذيل الكتاب!