هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عبد الحميد بن أحمد أبو سليمان من مواليد مكة المكرمة عام 1936م
وتوفي في 18 آب (أغسطس) 2021 بعد رحلة طويلة من التحصيل العلمي والعطاء الفكري، وهو
واحد من القامات الفكرية العربية والإسلامية.. حاصل على بكالوريوس التجارة في قسم
العلوم السياسية عام 1959م، من كلية التجارة بجامعة القاهرة، ثم على درجة
الماجستير في العلوم السياسية من كلية التجارة بجامعة القاهرة، سنة 1963م، ثم على
درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا في الولايات
المتحدة عام 1973م.
عمل أبو سليمان أميناً لاجتماعات المجلس الأعلى للتخطيط بالمملكة
العربية السعودية، ثم عضواً في هيئة التدريس بكلية العلوم الإدارية (كلية التجارة
سابقاً) في جامعة الملك سعود بالرياض (جامعة الرياض سابقاً)، ورئيساً لقسم العلوم
السياسية فيها. وهو من مؤسسي اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية
وكندا، والاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية، ورئيس مجلس الإدارة الأسبق لمدارس
منارات الرياض.
كما تولى منصب الأمين العام المؤسس للأمانة العامة للندوة العالمية
للشباب الإسلامي بالرياض بالمملكة العربية السعودية، والرئيس الأول ومؤسس للمعهد
العالمي للفكر الإسلامي، والمدير العام الأسبق للمعهد العالمي للفكر الإسلامي،
والرئيس المؤسس لمؤسسة تنمية الطفل، والمؤسس والرئيس الأسبق لجمعية علماء
الاجتماعيات المسلمين بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ومؤسس ورئيس تحرير سابق
لمجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية. وهو أيضا مؤسس ومدير
الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا 1988م ـ 1999م، ورئيس المعهد العالمي للفكر
الإسلامي 1999م.
الكاتب والباحث المغربي المختص بشؤون الفكر الإسلامي بلال التليدي،
يعيد قراءة فكر الراحل عبد الحميد بن أحمد أبو سليمان مع اقتراب الذكرى السنوية
الأولى لوفاته، ودعوته قيادات الحركة الإسلامية إلى التركيز على الجانب التربوي
باعتباره الأساس لأي إصلاح.
مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي
تعتبر مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي ثمرة تحول نوعي حصل لبعض قيادات العمل الإسلامي، وبعض القيادات الفكرية داخل الحركة الإسلامية، فقد اقتنعت هذه المدرسة بشكل مبكر إلى تشخيص مختلف لأزمة الأمة، بعد أن كان السائد في خطاب الحركات الإسلامية، بل وحتى الإصلاحية، هيمنة البعد السياسي، ونسبة أعطابها المختلفة للانكسار التاريخي الذي حصل في بنية الحكم.
جيل المؤسسين للمعهد، بحكم وجود أغلبهم في بلاد المهجر، وبحكم أن أغلبهم كان من اللاجئين السياسيين، أو من الفارين من استبداد الأنظمة العربية وبطشها (مصر، سوريا، والعراق) ساهم بشكل كبير في الوصول إلى هذه القناعة، كما كان لاحتكاكه بالثقافة الغربية، وملاحظته للهيمنة التي تحدثها عل مناهج التفكير في العالم العربي، أثر كبير في الالتفات إلى البعد الفكري في الأزمة، والحاجة إلى إصلاح فكري عميق، يعيد تأسيس المنهجية الإسلامية التي صاغت علوم الإسلام في التجربة التاريخية للأمة.
الدكتور عبد الحميد أبو سليمان رحمه الله من الوجوه الفكرية المشهورة التي طبعت في العقود الثلاثة الأخيرة بصماتها على الفكر الإسلامي، فالرجل بالإضافة إلى كونه من المؤسسين للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومن الذين تركوا آثارا فكرية وازنة تؤصل للمنهجية الفكرية التي دعا إليها المعهد، وتقف بشكل تحليلي معمق عند أزمة العقل المسلم إلا أنه فضلا عن ذلك، امتاز بثلاث خصائص: الأولى أنه انتقل من البعد النظري إلى فضاء الممارسة، باعتبارها تعكس سلامة العقل النظري أو تعكس اختلاله، ومن ثمة، كانت مبادرته بتأسيس الجامعة الإسلامية لترجمة فكرة إسلامية المعرفة، ثم تأسيس الجامعة الإسلامية ببيروت.
أما الخاصية الثانية فتتمثل في كونه، خلافا للعديد من مؤسسي المعهد ورواده، يخوض في القضايا الإشكالية بنفس فيه كثير من الجرأة، فالرجل يتميز برؤية نقدية عميقة تبرز في العديد من مؤلفاته لاسيما كتابه حول العنف، وكتاباته حول الرؤية الكونية وقضية الإرادة والوجدان، إذ حاول فيهما أن يبرر سبب انعطاف المعهد لقضايا التربية والتعليم.
وأما الخاصية الثالثة، فقد شاركه فيها الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله، إذ اهتما معا بترشيد فكر الحركات الإسلامية وتنبيهها إلى أزمة عقلها المعرفي والسياسي، وتنبيهها إلى الأولويات التي ينبغي أن تشتغل عليها.
من أزمة العقل إلى أزمة التربية والوجدان
ليس من باب الاكتشاف الكبير أن يلاحظ التحول الكبير في توجه المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مراحله المتأخرة من الاهتمام بإصلاح العقل المسلم وقضية المنهجية المعرفية الإسلامية إلى إفراد قضية التربية والوجدان بالأولوية، فهذا التحول ليس عارضا، بل ينم عن تحول نوعي يعكس تغييرا في النظرة والمشروع الفكري الذي كان المعهد يدعو إليه منذ عشرين سنة.
الدكتور عبد الحميد أبو سليمان يعتبر أن الأمر ليس فيه أي تغيير أو انتقائية، فالذي يقرأ كتاب "أزمة العقل المسلم" يجد فيه الإشارة إلى قضية الرؤية والتربية والوجدان. فالإنسان، أي إنسان، فيه جوانب، تؤثر على سلوكه في النهاية، وبالتالي، يجب أن تتعامل معه في النهاية ككل باعتباره يضم كل هذه الجوانب التي تتفاعل يما بينها.
يرى أبو سليمان أن هذه الأمور لا تبحث دفعة واحدة، وإنما تبحث جانبا جانبا إلى أن تكتمل الجوانب. فالبداية بأزمة العقل المسلم كانت ضرورية، لأن تصرفات الإنسان يحكمها تفكيره. فكان من الضروري ـ حسب أبو سليمان ـ في البداية إدراك ماذا أصاب هذا العقل، فالأمة لا تنقصها القيم والمبادئ، فهذه أمور مفصلة في القرآن الكريم، والأمة لا تنقصها الموارد وإمكانات، لكنها مع ذلك ليست فاعلة، وهذا لا يمكن تفسيره إلا خارج أزمة العقل ومنهج التفكير. من هنا طرح سؤال معرفة التدهور في الفكر الذي أدى فيما بعد إلى تدهور في السلوك والتربية، ثم أدى إلى انهيار الحضارة العربية الإسلامية.
فكان لا بد من البداية بإصلاح الفكر ومنهج التفكير، لأن معالجة أزمة العقل المسلم وإصلاح منهج التفكير ستؤدي في تشخيص أبي سليمان إلى إصلاح كل جوانب الاختلال التي مست الجوانب الأخرى. فمادام منهج التفكير خطأ، فإن النتائج تصبح دائما عشوائية. ولذلك وقع في فكر أبي سليمان الاهتمام بإصلاح الفكر ومنهجه معتبرا ذلك الخطوة الأولى في مشروع إصلاح الإنسان المسلم.
جانب ثان في تشخيص عبد الحميد أبي سليمان رحمه الله دفع إلى الانعطاف إلى قضية التربية والوجدان، فحتى ولو تم من الناحية العقلية البحتة إدراك أن هذا جيد والآخر سيء، إلا أن هناك أسباب وجدانية نفسية تدفع إلى أن ينتج هذا السلوك السيء ولا ينتج السلوك الجيد. ومن هنا كان لا بد ضمن مشروع الإصلاح من النظر في إصلاح الوجدان حتى يكون ذلك حافزا للمرء على أن ينتج من السلوكات والتصرفات ما يتناسب مع ما يطلبه منه العقل.
على أن الأمر لا يتوقف على إصلاح الفكر وقضية التربية فقط، فمنهج التفكير الصحيح، والتربية الجيدة في نظره لا تكفي، فهناك دائما حاجة لوجود دافع يحفز على الفعل، وهذا ما برر في مشروعه الفكري الحاجة إلى "الرؤية الكونية" التي تجيب عن الإشكالات المتعلقة بهوية الإنسان والأهداف المؤطرة لفكره وسلوكه، بحيث إذا غابت هذه الرؤية التي تمنحه الجواب عن مصدر وجوده وغايته في هذا الكون، تصبح كل خطاطات فكره وتصرفاته غير ذات معنى وبدون هدف.
يصحح أبو سليمان تصور الإسلاميين الذين يعتقدون أنهم في حال الوصول إلى السلطة، ستصير عندهم الإمكانات لفعل ما يريدون وتنفيذ قناعتهم الدينية، ويعتبر أن السلطة وحدها لن تمكن الإسلاميين في نهاية المطاف من تغيير الأمة، وأنهم ستكونون مضطرين في الأخير إلى التكيف، وإنتاج نفس أنماط السلوك في الحفاظ على المواقع والمصالح واحتكار السلطة، كما كان يفعل الآخرون من قبل.
تمثل الرؤية الكونية في فكر أبي سليمان رحمه الله البنية التحتية التي ترتكز عليها ثقافة الأمة. فإذا أصلحت البنية التحتية ينعكس ذلك في شكل فاعلية للإنسان تنتج السلوكات الجيدة التي تنبثق من تربية وجدانية سليمة كما تنتج الأعمال السليمة التي تنطلق من تفكير جيد. فصلاح البينة التحتية ينتج عنه بالضرورة صلاح الثقافة والحضارة والعمران.
هكذا يرتسم البناء الهيكلي للمشروع الفكري لأبي سليمانّ، إذ انطلق مشروعه ابتداء من (إصلاح الفكر)، ليركز بعد ذلك على مهمة (التربية والوجدان والرؤية الكونية). بحيث كان الترتيب مقصودا، حتى يخدم الأول الذي يليه حتى ينتهي المشروع وقد لامس كل الجوانب بشكل مكتمل. فالانتقال من جانب إلى آخر هو ناتج عن تصور مبنى الإنسان ومبنى ثقافتنا الإسلامية، إذ لا يمكن التفكير في التربية دون البدء بقضية إصلاح العقل ومنهج التفكير، ولا يمكن تحقيق الفاعلية بمجرد حصول التربية وإصلاح الوجدان، إذ لا بد من الرؤية الكونية التي تدفع الإنسان إلى الفعل، وتبرر له الحاجة إلى المبادرة والتحرك للفعل.
مركزية الأسرة في صناعة التغيير في فكر عبد الحميد أبي سليمان
لا يفتأ الدكتور عبد الحميد سليمان رحمه الله يؤكد على مركزية الأسرة في التربية والتغيير، لكنه يقر بأن هذه المؤسسة قد عرفت تحولات كثيرة مست بنيتها وأدوارها وأضعفت قدرتها على الفعل وصناعة الأجيال.
يرى أبو سليمان أن هناك سببان أساسيان يفسران هذه التحولات أولهما أن تحمل الأسرة للعبئ الاقتصادي أصبح يمنعها من التفرغ لقضايا التربية. فبدل أن تحل مشكلة الأسرة المادية، وتتاح لها الإمكانات التي تساعدها على التفرغ لمهام التربية والتوجيه وإصلاح الوجدان، تم التضحية بالبعد التربوي وإهماله وصار الهدف المركزي والشاغل الأساسي هو حل المعضلة الاقتصادية.
يرى أبو سليمان أن أول ما ينبغي فعله هو أن نمنع أن تتحول الأزمة الاقتصادية إلى أزمتين أزمة اقتصادية وأزمة تربوية. وأما السبب الثاني، فيتعلق بالجانب التصوري الفكري. يرى أبو سليمان أن هناك ثقافة سائدة تدفع الوالدين إلى الاعتقاد بأن الاستهلاك وتوفير الضروريات والحاجيات وربما التحسينيات في أمور المعاش هي مجموع التربية. يدق أبو سليمان ناقوس الخطر في مواجهة هذا التحدي الفكري التصوري، ويرى أن المطلوب هو المساهمة في تغيير هذه القناعة الخاطئة، بما يعيد الاعتبار لأولويات التربية. وتعود بذلك المهمة التربوية (إصلاح الوجدان) ذات أهمية قصوى لدى الأسرة.
لا يختبئ أبو سليمان وراء الكلمات ولا يخفي مشكلة تنظيم العمل داخل الأسرة، بل يتجه رأسا إلى طرح الخيارات الضرورية للجمع بين وظائف الأسرة المختلفة وتحقيق التكامل بينها، ويؤكد بهذا الخصوص على ضرورة أن تصير الأمومة والتربية أولوية بالنسبة إلى المرأة، وما فاض من وقتها يمكن أن يستثمر في العمل، بحيث تقضي فترة الخصوبة (18 ـ 45) وهي تعطي الأولوية الكبرى للتربية والأمومة، وبعدما تفرغ من هذه المهمة تتوجه إلى العمل لإسعاد كل من حولها.
الحركة الإسلامية وإهمال الصناعة الثقيلة
لم يكن الدكتور عبد الحميد أبو سليمان يتردد في نقد الحركات الإصلاحية والحركات الإسلامية على وجه الخصوص، ويلاحظ عليها إهمالها للتربية (الصناعة الثقيلة) ويرى أنها مشغولة بقضايا الحكم والسياسة والصراع على السلطة. فقد كان دائم التنبيه لها بأن أي إصلاح من أي اتجاه إذا تحقق من غير النظر في البنية التحتية (التربية)، سيصل إلى نفس النمط السائد حاليا (الاستبداد). لأنه كما تكونوا يولى عليكم. ولأن كل من سيأتي من أي اتجاه سيكون همه هو احتكار السلطة.
تبعا لهذه الرؤية، كان الدكتور عبد الحميد سليمان يرى أن الأولوية التي ينبغي أن توجه لها الحركة الإصلاحية اهتمامها هي القضية الفكرية التربوية. يستدل على ذلك بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي مكة، لم تكن للمسألة السياسية والصراع على السلطة أي أهمية في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت الأولوية هي المسألة الفكرية والتربوية من خلال العقيدة ومقتضياتها السلوكية. فلما تمثل الصحابة هذه العقيدة، وعانوا في سبيلها ما عانوا من ابتلاءات وصبر لأزيد من عشر سنوات، حينها أعطيت الانطلاقة. ولذلك، يرى أبو سليمان أن مهمة الحركة الإصلاحية هو إعطاء الأمة الدليل أي ماذا تفعل؟ وكيف تفعل؟
يرى أبو سليمان أن السلطة لا تقيم مؤسسات الأمة، بل الأمة نفسها هي التي ستقيم مؤسسات تدير سياساتها وتفعل ما تشاء بناء على قناعاتها.
يصحح أبو سليمان تصور الإسلاميين الذين يعتقدون أنهم في حال الوصول إلى السلطة، ستصير عندهم الإمكانات لفعل ما يريدون وتنفيذ قناعتهم الدينية، ويعتبر أن السلطة وحدها لن تمكن الإسلاميين في نهاية المطاف من تغيير الأمة، وأنهم ستكونون مضطرين في الأخير إلى التكيف، وإنتاج نفس أنماط السلوك في الحفاظ على المواقع والمصالح واحتكار السلطة، كما كان يفعل الآخرون من قبل.