مقالات مختارة

حلف الناتو بين الهائج والهادئ

جلبير الأشقر
1300x600
1300x600

تنعقد قمة الناتو في مدريد، وهي ثاني قمم الحلف في العاصمة الإسبانية بعد ربع قرن، والتعليقات تتكاثر حول كونها إحدى أخطر قممه منذ تأسيسه في عام 1949، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق.

 

والحال أن ما نشأ بوصفه حلفاً دفاعياً بين ضفتي المحيط الأطلسي الشماليتين، أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، في مواجهة الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية التي هيمن عليها إثر الحرب العالمية الثانية، لم يطلق طلقة واحدة طوال الأربعين عاماً ونيف التي عاصر فيها الحكم «الشيوعي» في موسكو. أي أن الحلف لم يشترك بذاته رسمياً في أي حرب طوال تلك الفترة، بل اكتفى بممارسة «الردع» إزاء المعسكر المضاد.


وقد عرف الحلف الأطلسي نقلة نوعية بالغة الأهمية إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ومن ثم زواله في آخر عام 1991، عندما واجه خياراً بين الزوال بدوره لانتفاء غرضه الأصلي والتحوّل، فاختار الثاني. هكذا استحال الحلف الدفاعي «منظمة أمنية» بما عنى انخراطه في مهام عسكرية، وذلك خارج دائرته الأصلية المقتصرة على أراضي دوله الأعضاء. فأخذ يتدخل في ساحات أخرى بدءاً من البلقان في التسعينيات، حيث شنّ أولى حروبه في عام 1999، وصولاً إلى أفغانستان، ومروراً بالعراق حيث أناط به المحتل الأمريكي بعض المهام الثانوية.


أما التحول الأخطر في طبيعة الحلف، فقد نجم عن قرار فتح أبوابه أمام الدول التي كانت تدور سابقاً في فلك الاتحاد السوفييتي، بل حتى أمام الجمهوريات السوفييتية السابقة المجاورة لدول الحلف الأطلسي في أوروبا والقوقاز، وهو ما رأت فيه روسيا ما بعد السوفييتية تعبيراً عن عداء لها إذ كان واضحاً أن الدعوة لم تشملها. وقد تقرّر أول توسّع للحلف شرقاً في القمة الأولى التي عقدها في مدريد سنة 1997، عندما وجّه دعوة رسمية لبولندا والمجر والجمهورية التشيكية، التي التحقت بالناتو رسمياً في القمة التي انعقدت في واشنطن عام 1999، سنة الذكرى الخمسين لتأسيس الحلف.


تنعقد قمة الناتو في مدريد، وهي ثاني قمم الحلف في العاصمة الإسبانية بعد ربع قرن، والتعليقات تتكاثر حول كونها إحدى أخطر قممه منذ تأسيسه في عام 1949، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق
شكّل قرار توسيع الناتو شرقاً مدخلاً إلى تصعيد متدرّج للتوتّر في العلاقات بين روسيا وبين الناتو، وعلى الأخص زعيمته الأمريكية. وقد بلغ التوتّر ذروة أولى مع انضمام دول البلطيق الثلاث في عام 2004 الذي خلق حدوداً بين روسيا والناتو في لاتفيا وإستونيا، علاوة على الحدود بين بولندا وليتوانيا من جهة، وكالينينغراد من الجهة الأخرى، وهي الأرض الحبيسة ألمانية الأصل (كونيغسبرغ) التي استولى عليها الاتحاد السوفييتي إثر الحرب العالمية الثانية. ولمّا تبيّن أن الحلف متّجه إلى فتح أبوابه لجورجيا وأوكرانيا في عام 2008، وهما أيضاً محاذيتان لروسيا، كان رد فعل فلاديمير بوتين أن تدخل عسكرياً في جورجيا بعد تأجيج صراع إثني داخل حدودها، وهو يراهن على أن ذلك كافٍ لردع أوكرانيا.


لكن ثورة «ميدان» في أوكرانيا في عام 2014 قضت على تلك المراهنة، فاحتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمّتها رسمياً إلى أراضيها، كما تدخلت عسكرياً في شرقي أوكرانيا القارية بما شكّل تكراراً لما فعلته في جورجيا. وبذلك حالت روسيا دون انضمام الدولتين إلى الناتو، إذ إن انضمام أي منهما وهي في حالة مواجهة عسكرية شبه مباشرة مع روسيا يعني دخول الحلف ذاته في تلك المواجهة.


والحقيقة أن فرصة انضمام أوكرانيا للناتو باتت منعدمة تماماً منذ عام 2014، بحيث إن تفسير اجتياح روسيا الأخير للأراضي الأوكرانية بالتصدّي لخطر ذاك الانضمام إنما هو تفسير باطل. فلم يخفِ بوتين طموحه باستعادة سيطرة روسيا على أوكرانيا التي ينظر إليها كجزء مما يسمّى باللغة الروسية «العالم الروسي»، وهو نمط من التفكير أدانه لينين، مؤسس الاتحاد السوفييتي، واصفاً إياه بأنه فكر توسّعي مستمدّ من «شوفينية روسية كبرى» (وهو سبب إدانة بوتين للينين المتكرّرة في خطبه).


هذا وتنعقد قمة مدريد الجديدة وسط أخطر حرب شنّتها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية (أخطر من حربي أفغانستان وسوريا) وأخطر مواجهة بين روسيا وحلف الناتو منذ تأسيسه. وتكتمل بالتالي حالة العداء السافر بين الحلف وروسيا بما يعيده إلى مستوىً من المواجهة شبيه بما كان قائماً في أخطر مراحل «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي انعكس في قرار مضاعفة تعداد قوات الناتو الجاهزة للتدخل من 40,000 إلى 300,000. وهذا تحول عظيم الأهمية بالتأكيد، شأنه في ذلك شأن قرار السويد وفنلندا الانضمام إلى الحلف بدورهما، علماً أن لفنلندا 1,340 كيلومتراً من الحدود مع روسيا.


أما الأخطر من ذلك بعد فهو أن قمة مدريد سوف تعيّن الصين رسمياً للمرة الأولى كمصدر قلق، وقد تمت دعوة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا إلى حضور الاجتماع بوصفها دول «شريكة» للحلف في منطقة الشطر الآسيوي للمحيط الهادئ. هذا ما سوف يسجله التاريخ على الأرجح كأخطر تحول في وظيفة الناتو منذ ما تلى انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ إن انتقال حلف شمال الأطلسي إلى الاهتمام بالمحيط الهادئ إنما يتوّج استراتيجية واشنطن في توحيد شبكتها العالمية في مواجهة الدولتين اللتين عينّتهما خصمين لمنظومتها بما يتيح لها تعزيز هيمنتها على معظم دول أوروبا من جهة وشرقي آسيا وأوقيانوسيا من الجهة الأخرى.


وهي سياسة تنقصها الحنكة في الحقيقة إذ تدفع الصين نحو تعزيز العلاقات مع روسيا بالرغم من محاولة بكين التزام شيء من الحياد عملياً، إن لم يكن سياسياً، منذ بدء الاجتياح الروسي (على سبيل المثال، امتنعت الصين عن التصويت على قرار إدانة الغزو الروسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدل التصويت ضده مثلما فعلت روسيا ومعها بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وأريتريا، كما لم تتعمّد الصين خرق العقوبات الغربية على روسيا إلى الآن). أما أوروبا ودول المحيط الهادئ فإن قبولها السير وراء واشنطن في تصعيد المواجهة مع الصين إنما يضحّي بمصالحها الأساسية لصالح الولايات المتحدة. وما كانت لتقبل بذلك لولا تعاظم ارتهانها الأمني بواشنطن بفضل الاجتياح الروسي، الذي هو بالتأكيد أحد أكثر الاجتياحات رعونة في التاريخ من حيث ارتداده على من ارتكبه.


القدس العربي


0
التعليقات (0)

خبر عاجل