قضايا وآراء

قيس سعيد والعشق الحرام!

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600

عشق الشاعر "قيس بن الملوح" ابنة عمه "ليلى العامرية" ولُقب بالمجنون لهيامه الشديد بها، وخاصة بعدما رفض عمه تزويجها له، فبات يهيم في البادية يتغزل بها ويتغنى لأجلها ويبكي لفراقها، متنقلا ما بين الشام والحجاز لتنتهي حياته بشكل مأساوي حيث وجدت جثته مُلقاة بين الأحجار!

أما "قيس بن سعيد"، الذي يدعي أنه يذوب عشقاً في تونس ويهيم في البلاد حباً لها، إذ به في ليلة ظلماء غاب عنها القمر يُلقي بحبيبته من أعلى الجبال لتغيب في ظلمات البحر وموجاته ليقفز مكانها، ويصبح هو تونس وتونس هو، إنه الدولة والدولة هي قيس سعيد. ولولا الملامة لقالها صراحة، كما قالها ملك فرنسا "لويس الرابع عشر" والملقب بـ"ملك الشمس" في العصور الوسطي، حيث قال "الدولة هي أنا"!

الفرق بين مجنون ليلي (قيس بن الملوح) ومجنون تونس (قيس بن سعيد)، أن الأول أحب ليلي بصدق وأخلص لها وامتزجت روحه بروحها وضحى بحياته من أجل هذا العشق.

عشق نفسه ككل الطغاة المستبدين، وادعى وصلاً بتونس، وتونس لا تقر له بذاكا.. خدع تونس بحب زائف ليغتصبها ويذلها ويجعل أهلها شيعاً أذلاء ضعفاء يتقربون إليه زلفاً بالنوافل، وهذا هو العشق الحرام أو العشق المُحرم

أما الثاني فقد عشق نفسه ككل الطغاة المستبدين، وادعى وصلاً بتونس، وتونس لا تقر له بذاكا.. خدع تونس بحب زائف ليغتصبها ويذلها ويجعل أهلها شيعاً أذلاء ضعفاء يتقربون إليه زلفاً بالنوافل، وهذا هو العشق الحرام أو العشق المُحرم!

يواصل مجنون تونس انقلابه الذي بدأه في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي، بانقلابه على الدستور وعلى كل المؤسسات التي انبثقت منه، أي أنه انقلب على المسار الديمقراطي ككل، وأغلق البرلمان وجمّد عمله ورفع الحصانة عن نوابه، وفرض حالة الطوارئ في البلاد، وأقر مجموعة من القوانين الاستثنائية وألغى جميع الجهات الرقابية. ثم في اليوم الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلن منح نفسه السلطة التشريعية كاملة، بعد السلطتين التنفيذية والقضائية اللتين اغتصبهما منذ بدء انقلابه، إذ أصبحت جميع السلطات في قبضة يده، لتصبح تونس كلها ملك يمينه؛ وكأن ثورة لم تقم ولم تغير شيئا ولم تفرض واقعاً جديداً!

وها هو في ليلة الثاني من حزيران/ يونيو الجاري، يقوم بمذبحة جديدة للقضاء، إذ يصدر قراراً بعزل سبعة وخمسين قاضياً دون محاكمة ودون حق في الدفاع عن أنفسهم أو التقدم بشكوى. لقد تعمد سعيد أن يضرب هيبة القضاة في مقتل، إذ إنه سحب منهم صفة السلطة المستقلة التي منحها لهم الدستور، وجعلهم موظفين خاضعين للسلطة التنفيذية، مما أعطاه الحق في طردهم كما يشاء ووقتما يشاء، بناءً على تقارير معللة صادرة عن الجهات المخولة، حسبما ورد في تعديل الفصل 20 من مرسوم المجلس الأعلى للقضاء. لقد نص المرسوم الرئاسي على أنه "لا يمكن الطعن في الأمر الرئاسي المتعلق بإعفاء قاض إلا بعد صدور حكم جزائي بات في الأفعال المنسوبة إليه"، أي أنه لا يحق للقضاة الاعتراض مثل غيرهم من المواطنين عندما توجه لأحدهم تهمة ما!

وكعادة كل الطغاة الفاشيين، لا بد أن يجمّلوا قراراتهم الاستبدادية بعبارات بليغة وبكلمات منمقة شعبوية تطرب الأذن وتهوي إليها أفئدة الشعوب، لتخفي حقيقة ومغزي قراراتهم التعسفية. فقيس سعيد يدعي أنه يحارب فساد القضاء، ويطمح في بناء قضاء نظيف في جمهوريته الجديدة التي يزعم بناءها!
عادة كل الطغاة الفاشيين، لا بد أن يجمّلوا قراراتهم الاستبدادية بعبارات بليغة وبكلمات منمقة شعبوية تطرب الأذن وتهوي إليها أفئدة الشعوب، لتخفي حقيقة ومغزي قراراتهم التعسفية. فقيس سعيد يدعي أنه يحارب فساد القضاء، ويطمح في بناء قضاء نظيف في جمهوريته الجديدة

لقد ارتدى قيس لباس الطهر والعفاف وامتطى فرسه وأشهر سيفه لمحاربه الفساد، وهو يدعو لجمهوريته الانقلابية، والتي هي في الحقيقة تعيد تونس إلى عصور الديكتاتورية والاستبداد، إلى حقبة "زين العابدين بن على"، حيث الشمولية وحكم الفرد، بل أعادها لأبعد من ذلك؛ إلى حقبة بورقيبة في الخمسينات والستينيات، ولكن بدون مؤهلات وقدرات وتاريخ بورقيبة المُشرف في النضال ضد الاحتلال الفرنسي، والتي كانت تشفع له عند معارضينه وتغفر له الكثير من زلاته. كما أنه لا يملك أيضا حنكة ولا دهاء زين العابدين كي تمكنه من الحكم منفرداً، ولا يتمتع بأي كاريزما فقد جاء من المجهول من خارج عالم السياسة، ومن المفارقة أنه جاء من خلفية قانونية وكخبير في الدستور الذي تغول عليه وعطل العمل به، وهو الذي أعرب قبل تسع سنوات عن مخاوفه من أن يأكل الحمار الدستور، وها هو سعيد يأكل الدستور في مضغة واحدة!!

لقد جاء من رحم ثورة الياسمين التي انقض عليها وقضى على كل مكتساباتها، والتي لولاها ما خطت قدماه قصر الرئاسة في قرطاج!

إن "مذبحة القضاء" التي قام بها قيس سعيد، قد قام بها من قبله كل الطغاة في المنطقة، من كبيرهم الذى علمهم الديكتاتورية وحكم الفرد "جمال عبد الناصر" إلى أصغرهم معمر القذافي الذى أستنسخ اليوم في صورة "قيس سعيد"، فهو القذافي الجديد في ثوبه التونسي.

لقد قام عبد الناصر عام 1969، أي بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 النكراء، بعزل 190 قاضياً بسبب رفضهم دمج السلطة القضائية في النظام السياسي، إذ أراد عبد الناصر أن يكمل إرساء قواعد الدولة الشمولية التي أسسها بعد انقلابه في تموز/ يوليو 1952، ووجد الفرصة مواتية له بعد الهزيمة وحالة الإحباط والانكسار التي عمت الشعب المصري، وتخلصه من المشير عبد الحكيم عامر ورجاله في الجيش وأصبح يسيطر عليه تماماً، وبقيت أمامه معضلة القضاء، فأراد أن يكمل قبضته على البلاد بإخضاع القضاة للنظام تحت شعار برّاق وهو دمج كل قوى الشعب العاملة في الاتحاد الاشتراكي، بما فيها القضاة ورجال الجيش لبناء الدولة الاشتراكية الجديدة، وأن يقيم محاكم استثنائية تطبق أحكام النظام الحاكم لتصفية الخصوم السياسيين من خلال هؤلاء قضاة النظام!
لم يخرج قيس سعيد عن كل الطغاه فالهدف واحد ترسيخ حكم الفرد وازاحة كل العقبات من أمامه ولتحقيق ذلك لابد من اخضاع القضاء للحاكم الفرد ويصبح جزء من المنظومة السياسية التي يسيطر عليها ويحكمها بالحديد والنار

ولم يختلف النظام البعثي في سوريا والعراق عن النظام الناصري في مصر كثيراً، فلقد كانت الأحكام تصدر من حزب البعث بالإعدام على المعارضين في الساحات العامة!

أما معمر القذافي، تلميذ عبد الناصر النجيب الذي كان يري فيه شبابه وأمنه على القومية العربية من بعده، فقد سار على خطى معلمه وجعل من القضاء أداة في يده لتنفيذ مشروع الجماهيرية العظمى الليبية المزعومة، ووسيلة لسيطرته على كل أدوات الحكم ومفاصل الدولة؛ ليتمكن من تصفية كل خصومه..

ولذلك لم يخرج قيس سعيد عن كل الطغاه فالهدف واحد ترسيخ حكم الفرد وازاحة كل العقبات من أمامه ولتحقيق ذلك لابد من اخضاع القضاء للحاكم الفرد ويصبح جزء من المنظومة السياسية التي يسيطر عليها ويحكمها بالحديد والنار..

في حقيقة الأمر إن معركة قيس سعيد ليست مع القضاة بقدر ما هي معركة مع العدالة والحرية والاستقلال وليس استقلال القضاء فحسب، ولهذا يجب على كل القوى الوطنية، السياسية والثقافية والنقابية والإعلامية أن تتضامن مع القضاة لكبح جماح شهوة حكم الفرد لدى سعيد لمنع انزلاق البلاد نحو الهاوية..
معركة قيس سعيد ليست مع القضاة بقدر ما هي معركة مع العدالة والحرية والاستقلال وليس استقلال القضاء فحسب، ولهذا يجب على كل القوى الوطنية، السياسية والثقافية والنقابية والإعلامية أن تتضامن مع القضاة لكبح جماح شهوة حكم الفرد لدى سعيد لمنع انزلاق البلاد نحو الهاوية

إن ما فعله قضاة تونس يستحق الاحترام والتقدير، إذ استوعبوا الصدمة سريعاً ولم يستسلموا لمذبحة سعيد ويتركوا زملاءهم المفصولين تعسفياً للذهاب إلى المذبح بمفردهم، بل تضامن كل القضاة معهم ووقفوا صفاً واحداً في مواجهة قيس سعيد وتصدوا للسلطة التنفيذية وتغولها، ودخلوا في إضراب عام شامل وتعطلت المحاكم في البلاد..

من أجمل الكلام الذي قيل بهذا الصدد ما قاله أحد القضاة لقيس سعيد: "لا تنس أنك اليوم رئيس الدولة، وغداً متهم أمام القضاء فحافظ على استقلاليته إن كنت بريئاً"..

من المؤكد أن "قيس سعيد"، الذي أتعس التونسيين، سوف يقف يوماً أمام القضاء التونسي ليحاكمه على كل ما اقترفه في حق الشعب التونسي، فليحسب هذا اليوم الذي ينساه كل الطغاة أمثاله الذين لا يتعظون ولا يعتبرون..

 

 

twitter.com/amiraaboelfetou
التعليقات (1)
حسين بوخاري .
الأربعاء، 15-06-2022 07:07 م
ماذا لو تحول هذا الفهم وهذا الصدق وهذا الوعي إلى أبناء هذه الأمة المظلومة المكلومة ؟