تُوفي إلى رحمة الله تعالى الأسبوع الماضي
الفنان موسوعي المعرفة بالتراث
السوداني والأدب العربي، عبد الكريم عبد العزيز محمد الكابلي، وهو شاعر وملحن ومطرب وباحث في التراث الشعبي السوداني. فالكابلي وهج الغناء السوداني الذي لن ينطفئ، وكَم غَيَّبَ الموتُ مِنْ قَريبٍ، وَكَم وَارَى الثَّرَى مِنْ حَبيبٍ، لا مهرب من الموت إلا إليه، تصديقاً لقول الله تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗوَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ"، وتأكيداً لما قاله، أبو ذؤيب الهُذلي خويلد بن خالد بن محرِّث بن مدركة المضري:
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
أطلق فقيدنا صرخته الأولى إيذاناً بيوم مولده في بورتسودان في عام 1932، ونشأ متنقلاً بين مدن بورتسودان وسواكن وطوكر والقضارف وقلابات وأبو قوتة وكسلا والخرطوم. وتلقى دراسته في خلوة الشيخ الشريف الهادي، والمرحلتين الأولية والوسطى في بورتسودان، والمرحلة الثانوية بأم درمان في مدرسة التجارة. ومن ثم التحق بالمصلحة القضائية بالخرطوم، وعُين مفتشا إداريا بإدارة المحاكم في عام 1951، ونُقل بعد أربع سنواتٍ إلى مروي، حيثُ أمضى فيها ثلاث سنواتٍ، ثم أُعيد إلى الخرطوم. وترقى في السلم الوظيفي بالقضائية إلى درجة كبير مفتشي إدارة المحاكم، وذلكم في عام 1977.
ولما كان متمكناً من اللغتين العربية والإنجليزية، هاجر إلى المملكة العربية السعودية، مترجماً في عام 1978، ولكن الغُربة عنده أقسى نضالا، وإن كانت سُترة حال! فعاد إلى السودان في عام 1981، لينداح عطاءً موسيقياً، وفكراً ثراً، مواصلاً ما انقطع من إبداعٍ وفنٍ.
كان الفنان الراحل عبد الكريم الكابلي ـ يرحمه الله ـ يُعطر في بداياته الغنائية أُمسيات جُلسائه، غناءً وثقافةً، وأظهر موهبة موسيقية غنائية فائقة، وكان صاحب ذائقة فنية عالية، يُداوم على سماع مطربي ذاكم الجيل المتفرد بالموسيقى والغناء، كأحمد المصطفى وإبراهيم الكاشف وحسن عطية وسيد خليفة وعثمان حُسين والتاج مصطفى وغيرهم، إضافة إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش.
وأحسبُ، أن النقلة الغنائية الحقيقية للكابلي، كانت عندما صدح بالغناء أمام الرئيس المصري جمال عبد الناصر خلال زيارته إلى السودان في تشرين الثاني (نوفمبر) 1960، بأنشودة "آسيا وأفريقيا" للشاعر تاج السر الحسن. وقد أشهرت هذه الأغنية، الأخ الشاعر الراحل تاج السر الحسن، إلى الدرجة التي جعلت الناس لا يعرفون من شعره سواها!
لم يكن الكابلي حاصراً نفسه في الموسيقى والغناء، كما كان أغلب فناني جيله، بل أولى اهتماماً ملحوظاً، بالتراث الشعبي السوداني، دراسةً وبحثاً، فصار متحدثاً مُلماً بفنونه وقضاياه، ومحاضراً عنه في المنابر الأكاديمية المحلية والإقليمية والعالمية، والوسائط الصحافية والإعلامية.
عرفتُ الفنان الراحل عبد الكريم الكابلي معرفةً حقيقيةً، منذ عهدي الطالبي بجامعة الخرطوم، إذ كنتُ طوال عهدي بالجامعة مسؤولاً عن
الثقافة والإعلام في منتدى الفلاسفة بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، بإشراف أستاذي الدكتور كمال حامد شداد، وكان من ضمن مهامي إعداد البرنامج المصاحب لفعاليات المنتدى الأسبوعية (مساء كل جمعة)، واستغليتُ علاقتي بابن بلدتي كسلا الفنان الراحل عبد العظيم عبد الله الشهير بعبد العظيم حركة الذي كان وقتئذٍ مسؤول دار الفنانين، فكان حلقة الوصل بيني وبين ضيوف المنتدى من الفنانين، وكان من بينهم الفنان عبد الكريم الكابلي.
من هنا بدأت العلاقة، ثم توطدت إبان اختياري أميناً عاماً للمجلس القومي السوداني في المملكة المتحدة وإيرلندا، واستفدتُ من خبرتي في منتدى الفلاسفة، إذ توليت مهمة تنظيم البرامج المصاحبة لفعاليات المجلس السياسية والاقتصادية والثقافية، بدعوة عدد من كبار الفنانين والمبدعين إلى لندن للمشاركة في تلكم الفعاليات، وكنتُ أكثر من دعوة الأخ الراحل عبد الكريم الكابلي، لأننا نشركه في الفعاليات الثقافية بالحديث إلى جانب الغناء، كما ننظم له لقاءات في الوسائط الصحافية والإعلامية، إضافة إلى إلقاء بعض المحاضرات عن التراث الشعبي السوداني في المنابر الأكاديمية والملتقيات العامة.
وكنتُ أستضيفه وبعض الرسلاء والأصدقاء في منزلي، حيثُ يشنف آذان الحضور بجميل الغناء، وعذب المثاقفة.
وفي رأيي الخاص، المتصفح لسيرة ومسيرة الفنان عبد الكريم الكابلي، تستوقفه بعض الملاحيظ، التي شكلت نقلة نوعية في مسار الأغنية السودانية، كان ينتقي قصائد أغنياته ـ تأليفاً واختياراً ـ ويُحسن الانتقاء. من ذلكم الانتقاء، أُغنية "حبيبة عمري" للشاعر الراحل الحسين الحسن، ولهذه الأغنية قصة ينبغي سردها في هذا الموضع، لما لها من دلالاتٍ ومعانٍ.
لم تكن "حبيبة عمري" من استهلالات الكابلي الغنائية فحسب، بل كانت اختباراً حقيقياً لاختيارات أغانيه، فهي تقع ضمن الأشعار التي تعرف عليها في مروي في خمسينات القرن الماضي، وسط جُلساء المؤانسة والمتعة.
فكان شاعرها القاضي المقيم (الحسين الحسن) في مروي، يتمرد على أعراف وتقاليد القضاء، ويكتب الشعر في ذات الحديث الخجول والهمس المنساب منه الخطر، فيبوح بأجمل بوح، فتخرج الكلمات بعذوبة وتتحول الأغنية إلى رمز يُشار إليها، إعجاباً واستغراباً، من حيثُ الكلمات واللحن والأداء، في خارطة الغناء السوداني إلى يوم الناس هذا!
فأغنية "حبيبة عمري" أنعم النظر ملياً ـ يا هداك الله ـ فتطرب كِلماً وغناءً، حيثُ يقول الشاعر الحسين الحسن يرحمه الله:
حبيبة عمري تفشى الخبر .. وذاع وعمّ القرى والحضر
وكنت أقمت عليه الحصون .. وخبأّته من فضول البشر
صنعت له من فؤادي المهادَ .. ووسّدته كبدي المنفطر
ومن نور عيني نسجت الدثار .. ووشّيته بنفيس الدرر
ومن حوله كم شبكت الضلوع .. فنام غريرًا شديد الحذر
وقد كنت أعلم أن العيون .. تقول الكثير المثير الخطر
إلى أن يقول:
حبيبة قلبي تقولين ماذا؟ تقولين ويحي! وهل كنت أفهم حرفًا يمرّ
فصوتك كان يهدهد روحي
ويحملني بجناح أغر
يحلق بي حيث لا أمنيات
تخيب ولا كائنات تمرّ
أذكر ونحن كنا نشقُ بداية طريقنا، في العمل الصحافي بجريدة "الصحافة"، نظمت إدارة الصحيفة رحلة إلى إحدى الحدائق الغناء في الخرطوم، يتقدمنا الشاعر الحسين الحسن رئيس مجلس إدارة الصحيفة، والأخ الصديق الشاعر الراحل فضل الله محمد رئيس تحريرها. فطلبنا من الراحل الحسين الحسن أن يُحدثنا عن "حبيبة عمري"، فابتدر حديثه بأن الكابلي لم يُغنِ إلا ربعها، وأنشدنا إياها، فطربنا لها أيما طربٍ!
روى لنا ذيوعها في مروي والمناطق المجاورة، فنما إلى علم صاحب السعادة بابكر عوض الله رئيس القضاء آنذاك، فاستدعى الفريق المشارك في تأليف وغناء القصيدة، ومن كان معهما في محكمة مروي، وأصدر إجراءاتٍ تأديبية تمّ بموجبها نقل القاضي المقيم (الحسين الحسن) من مروي، وأسندت إليه مهمة تأسيس القضاء العسكري، وتم تحويل باشكاتب المحكمة (عبد الكريم الكابلي) إلى قسم الأراضي بمحكمة بحري، وتم تحويل قاضي المحكمة الجزئية (عمر عبد العاطي) في مروي إلى محكمة بحري ومنها انتقل إلى المحاماة!
أما للحن أغنية "حبيبة عمري" قصةٌ أخرى، حسبما رواها لي الأخ الصديق الدكتور حافظ حُميدة رئيس جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، أن الكابلي كان صديقاً حميماً للبروفسور الراحل أحمد أيوب القدال، فأراد أن يُشارك في عُرسه بسنار. وأوضح لحافظ البروفسور القدال أن الكابلي استقل سيارة، حيثُ جلس في المقعد الأمامي بالقرب من السائق، بينما جلس الموسيقي الراحل محمد عبد الله محمدية، أحد أبرز عازفي الكمان في السودان في المقعد الخلفي.
وبدأ الكابلي يُجرب ألحانا مختلفة لأغنية "حبيبة عمري"، ولما وصل إلى اللحن الحالي للأغنية ربت على كتفه محمدية، صارخاً "أضبط"! بمعنى أن هذا هو اللحن المناسب لها. والكابلي متعاونٌ مع زملائه الفنانين لا يبخل عليهم بأشعاره وألحانه، ولما كان ذواقاً للجمال، نظم أغنية في جبل مرة ولحنها، وأهداها إلى الفنان أبو عركي البخيت، وهي أغنية "مرسال الشوق":
مرسال الشوق يالكلك ذوق
أغشى الحِبان في كل مكان
قليهم شوفنا جبل مرة
وعشنا لحظات حب ومسرة
أخلص إلى أن الكابلي فنان المثقفين، باختياره لأشعارٍ مقفاةٍ، ذات جرسٍ وموسيقى، من عيون الشعر العربي والسوداني، وجميل الشعر الشعبي السوداني. ويكفيه فخراً، أن كوكب الشرق أم كلثوم عندما سمعته يُغني "أراك عصي الدمع" للشاعر العربي أبي فِراس الحمداني، طربت له، وعلقت على غنائه، بأنه أجاد أداء الأغنية، بنطقٍ واضحٍ وسليمٍ لحروفها! إذ أن كثيراً من المصريين يعيبون على مغنيينا أنهم لا يُظهرون الحروف نطقاً جلياً.
وللراحل عبد الكريم الكابلي الكثير من الأغنيات التي تربعت على عرش الأغنيات في السودان منها: حبيبة عمري وأنشودة آسيا وأفريقيا ويا ضنين الوعد وأراك عصي الدمع وأكاد لا أصدق وزمان الناس وحبك للناس وشمعة وسلمى ولماذا؟ ومعزوفة لدرويش متجول (رائعة محمد مفتاح الفيتوري) والمولد لمحمد المهدي المجذوب.
وكأني بالأخ الصديق الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم قد عناه بقوله:
يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصطفي
كل سمح النفس بسام العشيات الوفي
الحليم العف كالأنسام روحا وسجايا
أريحي الوجه والكف إفتراراً وعطايا
فإذا لاقاك بالباب بشوشا وحفي
بضمير ككتاب الله طاهر
أنشبي الأظفار في أكتافه واختطفي
وأمان الله منا يا منايا
كلما اشتقت لميمون المحيا ذي البشائر.. شرّفي
تجدينا مثلا في الناس سائر
نقهر الموت حياة ومصائر
ألا رحم الله تعالى الأخ الفنان عبد الكريم عبد العزيز محمد الكابلي، رحمةً واسعةً، ومغفرةً من لدن مليكٍ مقتدرٍ، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وأنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، وألهم آله وذويه وأهليه، وأصدقاءه وعارفي فنه وفضله، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي:
وما الموْتُ إلاّ سارِقٌ دَقّ شَخْصُهُ
يَصولُ بلا كَفٍّ ويَسعى بلا رِجْلِ
ولنستذكر فوق هذا وذاك، في هذا الموقف العصيب الأليم، قول الله تعالى: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".